ما هي طبيعة علاقة الفلسفة بالسينما؟ وما حدودها؟ وهل هي علاقة وصل أم علاقة فصل؟ وما الذي تقدمه الفلسفة للسينما؟ وهل ما زالت السينما مرتبطة بالفلسفة لإنتاج مفاهيم معينة أم أنها احتفت بنفسها؟ وهل ما زالت السينما تبحث عن كوجيطو خاص بها حسب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز؟ وكيف تفكر الفلسفة في السينما والعكس؟

هذه جملة من الأسئلة التي جرى تداولها في الندوة الفكرية حول "الفلسفة والسينما"، التي نظمها مختبر الفلسفة والشأن العام، ومجموعة البحث في تحليل الخطاب، التابعين لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدارالبيضاء، بمقر مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم والإنسانية (يوم 9 مايو (أيار) الماضي)، والتي حاول المشاركون على ضوئها مناقشة إشكالية العلاقة بين الفكر الفلسفي والسينما، وتحديد نقاط التقاطع والاختلاف بين المجالين، ومقاربة التأملات الفلسفية، التي ركزت على السينما، خاصة الطروحات الخاصة للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، الذي ركز على أن السينما تهم الفيلسوف على أكثر من صعيد، وتحمل الإنسان على التفكير، وتتيح له فرصة فهمه لذاته، وابتكار أساليب جديدة للحياة.

التقاطع بين الفلسفة والسينما

وفي هذا الإطار قام الباحث المتخصص في الفلسفة إدريس كثير بتحديد محاور التقاطع بين الفلسفة والسينما، والمشترك بين هذين المجالين، حيث اعتبر أن الفلسفة تعتمد على المفاهيم، التي تنهلها من العدم (الكاوس)، والسينما تعتمد على المدرك، وتمتح من العتمة والظلمة، مشيرا إلى أن مساحة السينما هي الشاشة، فيما مساحة الفلسفة هي العالم، وأن شخوص الفلسفة هم: سقراط، وأفلاطون، ونيتشه، وشوبنهاور...، بينما شخوص السينما هم: شارلو، وطارزان، وموكلي...، أما فلاسفة السينما فهم: غودار، وبيركمان، ويوسف شاهين...، والموضوعات الفلسفية في السينما هي: هرقل، الرسالة، الإليادة، الأوديسا، الوصايا العشر، ابن رشد...

واعتبر كثير أن الفلسفة تتكون من اتجاهات وتيارات ومدارس، فيما السينما في نظره طليعية وواقعية، وفن وصناعة واستثمار، قائلا إنه إذا كانت الفلسفة عمل فردي، فإن السينما بخلاف ذلك عمل جماعي، مؤكدا أن التقاطعات بينهما لا قيمة لها، على اعتبار أن المشترك بينهما يكمن في تحويل الوهم إلى حقيقة، والحقيقة إلى وهم، وهنا تكمن أهمية المؤثرات البصرية في السينما.


ومن جانبه، تساءل محمد اشويكة عما يغري في السينما لتكون موضوعا للتفلسف؟ وما الذي يدفع كبار الفلاسفة إلى جعل التصوير مجالا لخطاب التفكير؟، مجيبا أن هناك من يرى أن السينما ليست مجالا للفكر، بل هي تسلية، معتبرا أن هذا الفهم خاطئا، لأن السينما مارست برأيه نوعا من التفكير الفلسفي داخل السينما ذاتها، مستدلا على ذلك بفيلم "الأزمنة الحديثة" للفهلوي شارلي شابلان، الذي قدم طرحا فلسفيا للواقع الرأسمالي الجديد بعيد الحرب العالمية الأولى، والأزمة الاقتصادية الكبرى، موضحا أن السينما استطاعت أن تترجم أسئلة العالم على الشاشة.

وفي السياق ذاته تساءل اشويكة عما إذا كانت الفلسفة قد نجحت في استيعاب العالم عبر اللغة، لأن السينما استطاعت أن تستوعبه من خلال الصورة، قائلا إن السينما تفكر انطلاقا مما هو مكتوب، أي السيناريو، مشيرا إلى أن فهم الفيلم لا يتم عبر المكتوب بالضرورة، بل عبر المشاهدة، وأن العلاقة بين المجالين تكمن أساسا في تجسيد المفكر فيه على الشاشة، أي في الانتقال من الفكرة إلى الصورة.

هل هناك فعلا سينما التفكير؟ وهل فكرت السينما مثل الفلسفة؟ سؤالان أساسيان ختم بهما محمد اشويكة مداخلته، وأوضح من خلال سينما كل من طاركوفسكي، وبيركمان، وويلز، أن السينما يمكن أن تكون أيضا مجالا للتفكير، إذا ما تم الاشتغال عليها بشكل مركب، بعيدا عن الخطية العادية، مشيرا إلى أن السينما اليوم يمكن أن ترحل بالإنسان إلى المدى البعيد.

ومن جهته استحضر الباحث محمد مزيان فلسفة جيل دولوز، خاصة منظوره إلى مفهومي الحركة والزمن، لفهم العلاقة بين الفلسفة والسينما، حيث اعتبر أن ما يجمع الفلسفة والسينما يتمثل في صورة الفكر، وركز على مخرجين سينمائيين عالميين ممن اشتغلوا في الصناعة السينمائية بعيد الحرب العالمية الثانية، أمثال المخرج الروسي أندري طاركوفسكي، والمخرج الفرنسي آلان رينيه. كما اعتبر أن السينما لا تنتج المفاهيم، لكنها تسقط في الكليشيهات، وإن كانت تقاومها.

تأملات فلسفية في السينما

وانطلق الباحث عبد العلي معزوز في مداخلته، التي تحمل عنوان "الصورة والمفهوم: تأملات فلسفية في السينما"، من ضرورة محاربة اعتبار السينما مجرد فن للفرجة، موضحا أن هذا الأمر يمثل شرطا أساسيا للتفكير في الفلسفة، إذ اعتبر بعد أن قدم تعريفات لكل من السينما والفلسفة، أن السينما يمكن أن تكون تفكيرا بالصورة، ووسيطا جماهيريا، ووسيطا بصريا وصوتا، وتركيبا لغويا وحواريا في الآن ذاته، كما قال إن الفلسفة والسينما يلتقيان في كونهما فنا للكشف والإظهار، وإن كانا يختلفان في طريقة وصولهما إلى هذه الغاية، مركزا على منظور الفيلسوف الأمريكي ستانلي كافيل للسينما، الذي يرى أنها تقرن بين الحضور والغياب، وبين الافتتان والغرابة في الآن ذاته.

أما الناقد عبد اللطيف محفوظ، فتوقف عند العلاقة بين السينما والكتابة عموما، من خلال تناوله لموضوع "الاقتباس وإشكالية التمثل"، وتحديدا إشكالية تحويل الرواية إلى أعمال سينمائية، إذ أشار إلى أن لكل جنس أدبي إيديولوجيته الخاصة، التي تأبى التحول مع كل تحول من الجنس الأدبي إلى السينما، موضحا أن هذا السبب هو الذي يجعل سينمائيين كبار يفشلون في نقل روايات شهيرة إلى أعمال سينمائية.

وذكر محفوظ أن الرواية تنبني على السرد والوصف والحوار، بينما السينما هي صورة وصوت (حوار بين الشخصيات)، متسائلا عن كيفية تحويل السرد إلى السينما. كما توقف عند ما يتعذر نقله من الرواية إلى العمل السينمائي، وما يمكن إضافته أو إقحامه في العمل السينمائي.

ومن جهته تساءل الناقد السينمائي حمادي كيروم عن كيفية تفكير السينما، معتبرا أن السينما لا تشيخ، وأنه يمكن إنقاذها من التورط في المبالغة في الطفولي والوحشي.

وأشار كيروم إلى أنه رغم التكنولوجيا المتقدمة وتقنية الأبعاد الموظفة حديثا في السينما، فإن الغائب الأكبر عنها اليوم هو الفكر، مشيرا إلى نموذج المخرج الروسي طاركوفسكي، الذي أعاد برأيه للسينما نبلها، وجعل من الصورة بحثا في الأركيولوجيا، ومحاولة للقبض على اللحظة.

ومن خلال تصنيفات الصورة: الصورة البلورية، الصورة الزمن، والفكر وهو يتحقق، والصورة الفكر، قام بتفكيك بعض أفلام طاركوفسكي، وعلى رأسها فيلم "القربان"، معتبرا أن زمن الديمومة هو سر الحداثة الفنية، وسر خلود الأفلام أو موتها، ولهذا برأيه تظل أفلام طاركوفسكي تسائلنا، وتسائل الزمان والحياة.