هشام أباسيدي

يرافق موجة المد الأصولي التي تعرفها ثقافتنا مؤخراً والتي تقف سدا منيعا ضد العقل والنقد، موجة موجهة باسم الأخلاق والدين ضد الفن والجمال والذوق. يتضح من خلال حجب كل ماهو جميل بدأً من جمال المرأة ووصولا إلى الأعمال الإبداعية، فالموسيقى حرام والغناء حرام والرقص حرام...
وما تقوم به داعش مثلا ماهو إلا حلقة فجة من حلقات المنع، من خلال تحطيم المنحوتات التي لها قيمة تاريخية إنسانية وفنية وإبداعية راقية لا تقدر بثمن. نفس السلوك المشين دشنته قبلها ضرّتها الطالبان عند تفجيرها لتمثالي بوذا...معتبرة أن تلك المنحوتات ما هي إلا أصنام آلهة وجب تحطيمها نصرة للإله الأكبر!!
وبسبب نفس المنطق أغتيل المخرج الهولندي فانجوغ لأنه أخرج فيلما اعتبره حراس المعبد خارج عن الدين ومُخلا بأخلاق سيد الخلق. هذا اللامنطق هو دائم التجدد والتمدد، إذ بالاستناد اليه تمت كذلك مذبحة كاريكاتيرست شاغلي إبدو...فالكاريكاتير ليس بإبداع أو فن!!!
الأمثلة تطول كذلك في الأدب والفكر...وما نجيب محفوظ وفرج فودة إلا نموذجين من بين الكثير...
وهو نفس اللامنطق الذي كان من وراء الصخب والشجب والمنع الذي رافق فيلم الزين لي فيك!

الفن سيكون فنا عندما يصبح عفيفا طاهرا ينضبط للأخلاق والقيم والتقاليد والدين والخصوصية...يجب ألا يحرجنا وألا يزعجنا نحن ذوي الأحاسيس المرهفة، نريده فنا "راقيا"، عفوا أملساً ومسطحاً على شاكلة نشيد"طلع البدر علينا" ولم لا أنشودة "صليل الصوارم"!؟
بئس الفن المقولب، الخانع، المتخلق!
الفن هو إبداع هو خلق هو إشعاع للجمال هو مساءلة الوجود واستفزازه، لأنه مرتبط مباشرة بجموح الخيال وعنفوانه. ولأنه كذلك فهو يصبح خفيفا لدرجة أنه ينط فوق سياجات الضوابط وصلبا لدرجة تهشيم كل القيم وهتك كل الأعراف وزعزعة كل العقائد...
إحدى خصوصيات الإبداع الفني هي الإزعاج، الشجب، هي التعرية...لكن بسلاسة وشعرية!
نكرر: الفن جارح، الفن فادح، الفن فاضح...الفن جمال!

إذا كانت لغة الشارع هي شكل من التعبير والسخط عن مرارة الواقع وظلمه، من خلال المفردات النيِّئة وتركيبات الجمل الحمالة لمعاني المعاناة والرفض. فان الفن هو كذلك شكل تعبيري آخر يستعمله الانسان لعكس هذا الواقع من جهة وكذلك لفهم الوجود وأسئلته المحيرة من جهة أخرى...إنه شكل راق في التعبير عن كل ما تعجز عنه اللغة. بل، هو تعبير عن عدم كفاية هذه الحياة وضيقها، هو متنفس يفتح إمكانيات وعوالم جديدة سيمتها اللاتناهي فهمًا وشعريةً، كما الخيال الخالق للجمال...
نعم هو ذاك. الفن.
لكن حين تغيب ملكة تذوقه، يكون العماء! الذوق هو ذلك الحس المركون في دواخلنا المسؤول عن إلتقاط ذبذبات الجمال واستقباله بنشوة إستيتيقية رفيعة وأصيلة. عندما تغيب أو تُغَيّب فإنه تحوط بالفرد أو المجتمع حالة من العتمة تجعله لايرى في الجمال إلا الإنحراف الأخلاقي، ولا يلتقط إلا إشارات القبح والتعصب. فينعكس ذلك في تصوراته وسلوكياته الحياتية...
فتكون النتيجة، تحت يافطة الأخلاق نمنع الأفكار ونحجب الجمال...
وباسم الهوية يقمع الإبداع ويقولب الخيال...
وباسم نصرة الدين تقطع الرؤوس المبدعة وتدجّن أخرى متمردة...

بما أن هناك نقاشا دائرا في المغرب بين تيارين مختلفين، واحد منغلق محافظ يمجد صورة أخلاقية نمطية ليس لها وجود إلا في ذهنه، ينطلق من الدين كمرجع وحيد لا يجب الانزياح عنه. وآخر منفتح على آفاق وإمكانات إنسانية جديدة يحاول الانعتاق من قبضة القيم الضيقة الحالية، ينطلق فيه من رؤية حداثية إنسانية للمجتمع.
نريد الدفع به لكي يصبح نقاشا رصينا يخرجنا من شرنقة النقاش الميتافيزيقي/البيزنطي: حلال/حرام، فن/ ليس فن، إجهاض/لا إجهاض إفطار/صيام...ثنائيات ليس لها من مخرج إلا إذا قلبت المعادلة. من خلال زحزحة هذا النقاش من مكانه الأخلاقي المسيج بمقولتي الخير والشر، إلى مكان آخر تفقد فيه مفعولها ويصبح تدخل تلك الكائنات الغيبية الماورائية في تحديد سلوك الفرد لاغٍ وغير مشروع. مما ينزع عنهما سحرهما الأسطوري ويصبحا فقط مجرد مكوننين إنسانيين يتحمل الفرد فيهما مسؤوليته في أن يكون خيّرا أم شرّيرا.
إذن تلزمنا الإستفاظة في النقاش من خلال الإحاطة بكل الجوانب وتمزيق كل الطابوهات، بهدف عزل وتحديد المسؤول عن هذا الوضع المؤدي إلى إنحباس قيمنا وأحكامنا وذوقما فقط في مرجعية القديم. حتى أصبحت أخلاق متكلسة وجامدة تعبر عن أخلاق مجتمع قروسطي متجاوز، تاريخيا ومعرفيا، وليس عن أخلاق مجتمع جديد طبيعته الأساسية الحركة والتطور...
تحقيق التراكم عبر هذه النقاشات ستوصلنا لا محالة الى ضرورة فك الارتباط بهذا القديم...إلى ضرورة تحقيق القطيعة...وإن بالثورة!؟
نعم الثورة...الطريق الوحيد لفتح هذا الانحباس، والرفع من انحطاط الذوق الجمالي. ثورة ضد كل ما هو بال ورث، ضد القديم المعرقل الذي لا يمكن إذابته وإزالته دون تهديم البنيان القائم. ثورة شاملة لكل مناحي الحياة. ثورة تبدأ من البنيان السياسي القائم بكل تشكيلاته المرضية المتورمة من ريع ورشوة ومحسوبية...وإعادة بنائه بشكل جماعي يستوعب كل تطلعات المجتمع باختلافاتها وحساسياتها المتنوعة الفنية والجمالية والدينية...
ثورة على العقل السياسي الذي يرى في السلطة غاية في حد ذاتها. يراها كأدات لممارسة الجبروت والطغيان، وكوسيلة للإنتفاع والارتقاء على حساب الآخر...والتخلي عن لعب دوره الأساسي والمتمثل في رد الاعتبار لقيمة الانسان ككائن عاقل، مبدع، فنان، مفكر...
ثورة على العقل الأخلاقي الذي ينمط سلوك الفرد والمجتمع، فيرسم له خطاطة حياته اليومية من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس. ثورة على الأخلاق التي تحدد كيفية التفكير طريقة الأكل والشرب والنوم ومتى كيف تدخل الحمام ووقت النكاح...
ثورة تستهدف العقل في كليته...تفجر طاقاته الخلاَّقة اللازمة لكل إبداع...ثورة تحرره من كل السياجات الأخلاقية التي تكبله...
حتى يصبح الفن واحد فقط من الإمكانات التعبيرية المتاحة للإنسان، والتي من خلالها ينبثق هذا الإنسان في كينونته وكونيته...إلى جانب إمكانات أخرى كالعلم والفلسفة والدين والتاريخ...وكذا ثورة على حساسية الفرد حتى تصقل ملكة الذوق الإستيطيقي.