تقرير هشام أباسيدي /ينايري
على متن حافلة باريسية متوجهة إلى "لكورنوڤ" إرتمت بجانبي سيدة سبعينية أنيقة أحاطت عنقها "بفولاغ" أحمر تتخلله رسومات صفراء صغيرة هي عبارة عن مطرقة ومنجل، وعلى جانب قميصها شوكة عليها صورة لماركس وفي الجانب الآخر شوكة مشابهة عليها صورة جون جوريس.
حكت لي عن زوجها الشيوعي الذي كان مسؤولا نقابيا في معمل پّوجو وعن أبيها الپروليتاري الشيوعي أيام جوريس في مناجم الشمال، وعن أيام النضال داخل خليتهم في الحزب وعن لقائها مع زوجها في مدرجات الكلية...
وصلت الحافلة أمام باب كبير، فانزلقت السيدة "فْرَاسواز" بسلاسة شابة في مقتبل العمر واختفت وسط الشباب الذاهب صوب مخيم حفلة الإنسانية.

هي الحفلة التي تنظمها بشكل دوري عند نهاية الأسبوع الثاني من شهر شتنبر من كل سنة، جريدة الإنسانية التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي. نواة الحزب الأساسية ودراعه الإعلامي. هذا التقليد الذي بدأ منذ سنة 1930 مازال مستمرا، بل أضحى ذا إشعاع عالمي بحيث أصبح محجا لكل شيوعيي العالم من منظمات وهيآت وأحزاب...
إنتنظمت خيام الحزب الشيوعي على جزء مهم من پّارك لكورنوڤ الشاسع، كل خيمة تمثل الجهة أو الإقليم الذي أتت منه. وفي الواجهة المحاذية ڤيلاج العالم village du monde والذي تعرض فيه خيّم وأروقة باقي بقاع العالم. تتخللها شوارع أعطيت لها أسماء معروفة من أقطاب الفكر اليساري مثل شارع كارل ماركس، وتشي غيفارا، وروزا ليكسمبورغ، وشكري بلعيد...
احتظنت هاته الأروقة مجموعة من المعارض إبتداءا من معرض الكتب الذي يقام بشكل دوري حيث تعرض الكتب والمجلات والدراسات والتي غالبا ذات التوجه اليساري. وأخرى فنية، كتلك التي زرت والتي هي عبارة عن منحوتات تقليدية لبعض القبائل "المالية" التي تعكس طريقة احتفالهم بالأقنعة. أما التيمتين اللتان كانتا حاضرتين بشكل لافت للإنتباه في هذه الدورة فهما تلك المتعلقة باللاجئين السياسيين، التي عكسها العرض الفوتوغرافي الذي ركز على الأوضاع اليومية والمزرية للمهاجرين "الرّوم" وصعوبة اندماجهم داخل المجتمع. والأزمة اليونانية التي أخدت حصة كبيرة من النقاشات والندوات داخل الأگورات والصالات.

كما نصبت ثلاث منصات كبرى إحداها قد تصل طاقتها الاستيعابية إلى مائة ألف متفرج، تستقطب كل سنة فنانين كبار من طينة "چوني هاليداي، ألفا بلوندي، ليو فيري..." للاستعراض فوقها. هاته السنة كذلك وبالرغم من الجو الماطر فقد رقصت الاجساد وتناغمت مع تشكيلة رفيعة من الفنانة المرموقين عالميا. كان أبرزها "ماني تشاو" ذو الميولات اليسارية الذي أبدع لوحات فنية جعلت تجاوب الجمهور معها تلقائيا وصاخبا ومتحديا بلل الطبيعة الغزير.

بعدما تسكعت هنا وهناك بين هذا العرض وتلك المنصة، عرجت على مكان عرض الخيم المغربية. حتى أطلع على القيمة المظافة التي ستقدمها أحزابنا اليسارية جداً في هكذا مناسبة، خصوصا وأننا لانزال تحت وقع مهزلة الإنتخاباتات التي لاتنبئ إلا بعدم مبارحتنا درجة الصفر في السلم الديمقراطي.
أول الخيم التي تلفت الإنتباه هي خيمة الأكراد التي ترفرف على جنباتها الأعلام الكردية وصور القائد"أوجلان". كانوا يرقصون تحت إيقاع الدبكة في صفوف متناغمة تجمع الإناث والذكور كما الحيدوس المغربي. وكم تمنيت من خلالها أن يكون هذا الشكل الفني المغربي الأصيل حاضرا من داخل خيماتنا، لكي نسوق نحن كذلك للرأي العام الدولي وعن طريق الفن أن ثقافتنا في العلاقة مع المرأة هي مختلفة ومخالفة لثقافة قبائل "عربستان" التي تحجب المرأة وتمنع الإختلاط بينها وبين أخوها الرجل. بعدها وضعوا لباس أبيض ملطخ بالأحمر وخرجوا في تظاهرة ينددون فيها بالوضع القائم في بلادهم كردستان.
بعدها كانت خيمة البوليساريو، خيمة على ما يبدو أنها مخصصة فقط للبيع والشراء، تظهر صورة عبد العزيز ببزته العسكرية ونياشينه المتدلية ونظاراته الشمسية كديك بلدي. سألت شيخا كان يبيع المنتوجات الصحراوية أمام الخيمة. وأين غابت صورة الولي المصطفى!؟
وكانت إجابته "الله ينصر المسلمين"، لم أفهم الجواب أو لم يفهم السؤال! ما علاقة المسلمين بنزاع الصحراء!؟ وبين المسلمين وحفلة الإنسانية أصلاً!؟

المهم، بالجانب منها كانت خيمة أحزابنا ربما هو قدرنا المحتوم في أنه لا فكاك بيننا حتى وإن إفترقنا...خيمة رفاق الشهداء أخرجت للشارع لوحة علقت عليها صور بن بركة وفي الداخل كان الرفاق يرقصون على الحاجة الحمداوية. الاشتراكي الموحد خال إلا من صورة وحيدة للشهيد بنعيسى وبعض الحلويات والمأكولات. أما الحزب الشيوعي الذي لم يعد شيوعي وأصبح متقدما واشتراكيا في آن واحد فقد زين خيمته بالرايات، حتى اعتقدت لوهلة ما أنني في عيد العرش أو في خيم المسيرة الخضراء ولا ينقص إلا صوت الحسن لكي ينادي. وفي الجهة المقابلة حزب النهج الذي علق لافتة يعلن فيها عن مرور عشرين سنة من النضال من أجل بناء نظام سياسي ديموقراطي. لا ندري هل هو بذلك ينهي تلك الإزدواجية التي تدعي على أنه إستمرار لإرث إلى الأمام وبذلك يمهد/يؤكد القطيعة مع هذا الإرث الذي كان يهدف إلى بناء مجتمع إشتراكي!؟
كما كانت هناك خيمة صغيرة الحجم تنبعث منها أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة، على مدخلها علقت لافتة "خيمة مساندة المعتقلين السياسيين بالمغرب". لا تنتمي لأي من الأحزاب، حسب أحد منظميها. كان بداخل الخيمة وخارجها مجموعة من الرفاق يدردشون مع المارة حول مجموعة من صور وملصقات المعتقلين السياسيين بالمغرب. وذلك من أجل تسليط الضوء حول الاعتقال السياسي بالمغرب ونقل معاناة هؤلاء المعتقلين خارج أسوار السجون وتكسير التعتيم الاعلامي المضروب عليهم بحسب نفس المصدر. في نظري ما كان ينقصهم وبشكل لافت هو تأنيث الطاقم النضالي.
وبينما أنتظر الحافلة، إذا بالسيدة "فْرانسواز" تتمايل وبيدها كأس جعة مصحوبة برفيقتها "جُوسلينْ" خرجتا للتو من سهرة "مانو تشاو"...أكملت لي قصتها مع زوجها الشيوعي!