حسن الحافة
عدت إلى الفيلاج. الفيلاج صار يحتويني بمقاهيه و شارعه الوحيد. لم أعد غريب عنه كما كنت سابقا، حين كنت لا أزوره سوى مرة في الشهر. كان يشتاق لي، أنا أيضا أشتاق له. إنه مثل الحمام، مهما طال غيابك على دخوله، ستدخله. لكن دون أن تفوت فيه ساعة من الزمن. هنا، في هذا الفيلاج " سبت الكردان " ساعة كثيرة عليه، لكن رغم كل ذلك صرت أقضي فيه يومي بطوله. كراسي المقاهي عافت نثانة مؤخرتي. أصحاب المقاهي الكثيرة جلبوا كراسي غير مريحة كي لا يطيل الناس الجلوس في مقاهيهم، و بالرغم من ذلك. تحمل الرثون و البؤساء و الحشاشون ألم مؤخراتهم الضامرة، وأطالوا الجلوس.
أن تولد في المغرب فهذا شر، أما أن تولد هنا، في هذا الفيلاج بالتحديد. معناه أن الله يئس منك و رماك هنا. الناس، الوجوه. الكلاب. نخلة أنبتت وسط مدارة طرقية. عاهرات مسنات. صبيات يتعلمن كيف يقحبن. قواد واحد معروف تخلى رجل أعمال عن خدماته، لم يعد يستعين به في تقصي نميمة الناس. بناية بلدية، مخفر درك. مستوصف كان يصلح لأن يتحول لثلاجة أموات. متشرد يقاسمني طاولة المقهى بين الفينة والأخرى، ينهج، ببطئ تارة و بشدة تارة أخرى. أستاذ يجبر تلامذته على الدروس الخصوصية، يخيرهم بين درس خاص في فضاء جمعية أو الرسوب. المتشرد يرحل دون أن يودعني، إنه صادق رغم ذلك.
بين هذه البنايات، وهذه الوجوه أقضي يومي. صاحب " الصاكة " يدفع لي بعلبة السجائر الرخيصة دون مطالبتي بالدين. يعرف أنه سيتعثر في كل يوم. وجدت والده البارحة، والده لن يقرضني. لهذا ظللت بدون تدخين طيلة الصباح، حتى حضر إبنه.
ما بين هذا المكان و الموت شعرة معاوية. معاوية لن يكون بالطاقة والقدرة لتحمل هذا المكان. لو ولد معاوية وعلي في هذا الفيلاج مكانا ليتقاتلا على من له حق الخلود. كانا سيتأبطان سيفيهما و يرحلا معا، كانا سيجنبا التاريخ مغبة تدوين أسماء ضحايا إقتتالهما.
مفلس دائما. القهوة السوداء، جريدة الصباح، هاتف خلوي نصف ذكي. " مردة " يمر مختالا في زيه العسكري، بخطوات متتاقلة. أرهقه الحذاء الجلدي المصفح الثقيل. يرفض قول ذلك، لكن عيناه تفضحان تعب رجليه.
هذا الفيلاج، عنوان بؤس. أناسه لم يحاربو المستعمر، إحتضنوه كما تحتضن دجاجة فراخها في ليلة باردة. على طول جنباته أراضي شاسعة وهبوها له. إشتغلوا تحت إمرته كعبيد. لهذا حين توارث أبناء الريف سخونة الدم و كره الإستعباد. كنا نحن، نربى على الإنصياع و الصمت. .
يتبع. ....