حسن الحافة
أستيقظ باكرا في الدوار. ناس الفيلاج والدواوير المجاورة ينامون باكرا، وينهضون أبكر. قبل الدجاج، بل قبل خلود الوطاويط للنوم. النهوض باكرا ملزم عليك سواء كنت تعمل أم مجرد " شومور ". النوم في الدوار لمتتصف النهار و أنت صحيح معافى، من المستحيلات. إنهم يحسبونك من الموتى، البارد القلب.الفاشل، المردوم الشعور. مقرك المقبرة هي وحدها من يقبل بك نائما في كل الأوقات.
يستنهضني والدي مرات ومرات، بصوت رخو صباحي في البداية، وحينما يرى تكاسلي و تماطلي في النهوض، يطلق العنان لخصومته. يعيرني بالفشل، أو بالبحث عن مكان آخر أبيت فيه. رغم جلافة حديثه، إلا أنه طيب القلب، حتى في لحظات خصومتنا، الكثيرة، ومغادرتي للمنزل. كان يتصل بي، يحاول تلطيف جو الصراع معه. أعرف أنه يبتغي لي الرفاه، أن يراني رجل، بجيب مليئ برزم الأوراق الزرقاء. يفضلني أن أصير أحسن منه. لكنه المسكين، نسي أن ذاك الحال ليس بيدي ولا بيده، إنما مشيئة الله والمخزن فوق أي أحلام و متمنيات. لا أحتاج لشريط فيديو مصور يوثق لكيف كان يتعامل معي حين كنت صبيا. تعامله مع إبن شقيقي أبان لي أمورا كثيرة، كنت عينه اليمنى التي يبصر بها. هذا ما وجدته في اللغة كي أصف تعامله.
عظامي لا تستطيع حمل ذلك النزر القليل من اللحم. لازلت نشوة الكييف تستوطن رأسي. لقد دخنت ليلة البارحة كثيرا، دخنت حتى صار الدخان يحرقني في حلقومي. العظام مهلوكة، الرأس يقاوم تبدد نشوة الليل، نفحات برد لاسعة. خيوط الظلام تتسرب، يخترقها الضوء فيفك تلاحم سوادها. أحك ظهري، الحك حين النهوض ممتع، وإلا ما فعلت الكلاب ذلك.
الناس هنا، في هذه الرقعة من الأرض لا يعرفون العمل سوى حين يتعبون. التعب معناه أنك تشتغل. الكادحون كثر، يلهثون وراء لقمة عيش. عصبيون صباحا، لا يفشون السلام. ليس لهم وقت لأن يفشوا السلام. كانوا منشغلين بسب الباطرون و القدر، الدوار والمخزن. يسبون كل شيئ. حتى زوجاتهم يسبونهن لأن وجودهن فرض مضاعفة التعب. حين يمضون على دراجتهم في الصباح للعمل، يدوسون على دواستها بتلكأ، برغبة في العودة و مضاجعة الزوجة و النوم. حلمهم هو شفيعهم في هكذا روتين حياة. الحياة ضنك، جهنم في شاكلة أنثى متبرجة، تغسل وجهها كلما رغبت هي في ذلك. فتتحول لعنقاء بشعة. و حتى إن أجابك أحدهم و أنت تسأله: "كيف حاله "، بالحمد لله. فاعلم أن صباح الدوار، وحده، ما جعله يجيبك هكذا.
صباح الدوار والفيلاج هما الإستثناء. القاعدة سوداء. حتى و هو يجبرني على النهوض لمعاونته في حلب بقراته، كان يروق لي الصباح. بصفائه. كل شيئ هنا يكذب، يخلف المواعيد، ينافق. عدا هو (الصباح)، يأتي دائما في موعده، كما هو، دون حاجته لأن يلبس ثوبا آخر. شيئ واحد يتقاسمه سكان الفيلاج مع الصباح، أنهما معا يسرقان. هم، يسرقون أي شيئ. وهو، يسرق غضبك من أنك ولدت هنا، ولو للحظات فقط. ..
يتبع. ..