قبل البدء تجدر الإشارة إلى أن الغاية من المقارعة الفكرية ليس هو التشفي أو ما قد يذهب خيال البعض إليه ، ولكن الغاية ، كل الغاية هي توضيح الأفكار وتصوراتها وخلق جسور التواصل وطرح الأسئلة المقلقة والإشكاليات العويصة ومحاولة الإجابة عليها .

تشير ديباجة الدستور "الممنوح" كما يجمع على تسميته كل معارضي النظام السياسي المغربي ، بما فيهم أصحاب مطلب الملكية البرلمانية ، تقول الديباجة " نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية " فالمقصود هنا بالملكية الدستورية هو إحدى نظم الحكم التي وصل إليه المجتمع البشري عامة في تطوير أساليب وأشكال نظم الحكم عبر التاريخ والملكية الدستورية تعني أن الملك يحكم بموجب سلطات يحددها له الدستور ، وهو شكل متعارض مع الحكم الفردي المطلق ، لكن والحق يقال أن مهندسو الدستور أفرغوا كل عبقريتهم في التلاعب بالكلمات والجمل وإعطاء توصيف معين ثم الانقلاب عليه عند أول منعطف في الطريق ، ثم إنهم كانوا أشد مكرا من الثعالب عندما يعطون حقا مشروعا للشعب ثم يلتفون عليه في الفصل الذي يليه فالأمر شبيه تماما ب " طلع تاكل الكرموس نزل شكون قالها لك " فشكل نظام الحكم الذي نص عليه الدستور الممنوح لا يتطابق وصلاحيات الملك في الفصول القادمة بحيث ينقلب الأمر رأسا على عقب ليصبح نظام حكم فردي مطلق وهذا ما توضحه مضامين الفصول التالية 42 و47 و48 و50 و51 و52 و53 و54 و56 وغيرها وما جاء في الفصل الثاني من هذا الأخير يتم إفراغه من محتواه كما تسل الشعرة من العجين وتبقي السيادة والسلطة العليا في يد الملك أو لدى بعض المؤسسات التي يرأسها أو يعين أعضائها.

تثبت هذه الفصول بأن الذين يحكمون فعليا غير منتخبين وهذا ما يجعل الانتخابات في المغرب لا تنتج إلا مجرد موظفين سامين وليس ممثلين للشعب . إذن فكل الكلام حول الملكية الدستورية ، الديمقراطية ، البرلمانية والاجتماعية هو مجرد كلام محشو لا أقل ولا أكثر وهذا يتعارض حتى مع مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة التي يطبل لها الماسكون على السلطة بهذا البلد ، وقد يسأل البعض عن  علاقة هذا بعنوان المقال ؟. 

 

ولكم نحن أهل هذا الزمان محظوظون بالتجارب التاريخية التي راكمها البشر قبلنا بجميع المجالات. ولأن التحليل العلمي والمادي أشد إقناعا من السفسطة فإن التاريخ لا يملك إلا محركا واحدا وكما أطلقت عليه الماركسية " الصراع الطبقي " هذا الصراع الذي يفعل فعله بالمجتمع البشري. صراع قائم بين من يستغل بفتح الياء وبين من يستغل بضم الياء ، بين العبد والسيد وبين القن والاقطاعي وبين العامل والراسمالي وباختصار بين من يملك كل شيء وبين من لا يملك أي شيء ،وعلى مقياس هذا الصراع ودرجة احتدامه والانفجارات التي تحدثها الثورات ترجح الكفة لصالح الطبقة التي استولت على السلطة السياسة لتبدأ من جديد إصطفافات بصيغ جديدة ومراحل جديدة لصراع جديد . 

في أوج الحراك العشريني الذي أطلقته حركة 20 فبراير والذي كان أكبر حراك شهده المغرب من حيث المساحة الجغرافية التي غطاها ونوعية المشاركة التي انخرطت فيه ، في خضم هذا الحدث ظهر الصراع بين مكونات الحركة حول نوعية النظام الذي تريده الحركة ، وتردد السؤال الشهير من داخل مجموعاتها العامة " ماذا تريد الحركة " و لم يكن الجواب شافيا بشعاره المركزي الذي رفعته الحركة " الشعب يريد إسقاط الفساد والاستبداد " حينها توحدت مجموعة من القوى معلنة أنها تطالب بملكية برلمانية ، فقاطعت هده القوى لجنة المانوني المكلفة بتعديل الدستور وكذلك قاطعت الاستفتاء على الدستور الممنوح، كما قاطعت الانتخابات البرلمانية لسنة 2011 ، وطرحت هذه القوى مطلب الملكية البرلمانية ودافعت عليه من داخل حركة 20 فبراير مما جعل مختلف القوى الأخرى تتهمها بمحاولة تسقيف الحركة . دعاة الملكية البرلمانية لم يحددوا أية ملكية برلمانية يريدون رغم أن ذلك ليس بالمهم بنفس القدر الذي تهم به الخطط والتكتيكات التي سيسلكونها للوصول لملكيتهم البرلمانية ، لنعد لتاريخ الأنظمة التي تتبع الأن نمط الملكية البرلمانية و قبل ذلك أشير إلى قولة سان جوست حينما قال أن "من يحفرون نصف ثورة، يحفرون قبورهم بأيديهم". 

ويبدوا  أن القبر قد شارف على الانتهاء فضعف الأحزاب المطالبة بالملكية البرلمانية جعلها تتخبط في نوع من التيه الإستراتيجي علاوة على غياب تام لتكتيكات واضحة كل هذا جعلها تظهر وكأنها تستجدي المطلب ، لنأخذ مثلا الملكية البرلمانية ببريطانيا . كيف ومتى وصلت بريطانيا للملكية البرلمانية ؟ 

الماغنا كارتا، واسمها الكامل “الميثاق العظيم للحريات في إنجلترا”، هي وثيقة وقعها الملك الإنجليزي جون مع مجموعة من النبلاء والأساقفة الإنجليز، والتي حددت من خلالها مجموعة من الحقوق والواجبات بين الملك والنبلاء في محاولة للجم سلطة الملك المطلقة ولضمان حقوق جزء من رعاياه “الأحرار” و "المقصود بها النبلاء " وقد صدرت يوم 15 يونيو لسنة 1215, وتكمن أهميتها في كونها أول تعاقد اجتماعي في التاريخ يخص النظام السياسي الإنجليزي، وتعد إحدى الوثائق المؤسسة للتقاليد الدستورية والديمقراطية في إنجلترا وكل الدول التي ارتبطت بها فيما بعد كالمملكة المتحدة، وكندا، والولايات المتحدة، وأستراليا، إضافة إلى باقي دول الكمنويلث البريطاني ومن بين الأحداث التي دفعت بالملك البريطاني حينها للتوقيع عليها هي هزيمته بمعركة بوفين مع فرنسا (حدثت في يوليو 1294) حيث خسر الإنجليز وحلفائه أكثر من 1000 جندي وكانت بداية نهاية موطيء  القدم الإنجليزية في أوروبا القارية بالإضافة إلى تذمر طبقة النبلاء من احتكار الملك لكافة السلط واستحواذه على تحصيل الضرائب وهذا الوضع دفع بالشعب البريطاني للانتفاض بوجه الملك وسرعان ما انقلبت الانتفاضة إلى انتفاضة مسلحة ولأن المعبر السياسي حينها لكافة شعب بريطانيا هم طبقة النبلاء فقد أبرموا مع الملك هذا الاتفاق " الماغنا كارتا " وبموجبه تم نزع مجموعة من السلط والصلاحيات من بين يدي الملك وهي نفسها الوثيقة التي ستؤسس لمجموعة من الإصلاحات الدستورية ببريطانيا .

 الهدف من هذا الدرس التاريخي هو كون كل الملكيات البرلمانية بأوروبا لم تكن هدية من الملكيات أو عن طيب خاطرها أو باستجدائها بل أتت تحت ضغط الشعوب عبر الانتفاضات وأعمال العنف التي ذهب ضحيتها الآلاف ، فكان على الملكيات المستبدة أن قدمت تنازلات تلو تنازلات أفضت إلى ما هي عليه الآن ومازال التاريخ مفتوحا فليست الملكية البرلمانية نهاية التاريخ ولا حتى الجمهوريات كذلك ، فالتاريخ يعلمنا جميعا أنه ما من مطلب مهما كان تافها لا يقبل به الحكام إلا عبر ضغط ومزيد من الضغط يستمل ميزان القوى لصالح المطالب ويجعل مصالح الحاكم في مهب الريح ، ولنا في 20 فبراير خير مثال فلولاها ما قدم القصر عدة تنازلات والتي يجري الآن الالتفاف عليها لأن من يحفرون نصف ثورة إنما يحفرون قبورهم بأيديهم .

  الثورة لا تبدأ و تنجز كل مهامها في غمضة عين، ولا تطيح بكل شيء بين ليلة وضحاها، بل إنها تبدأ دائماً كأنصاف ثورات، حيث يتواجد ما هو جديد جنباً إلى جنب مع ما هو قديم. هكذا استطاعت ثورة فبراير 1917 الإطاحة بالقيصر والشرطة، كما استطاعت تأسيس سوفيتات (المجالس العمالية المنتخبة)، وكل ذلك كان جديداً. وعلى الرغم من ذلك كان هناك الكثير من الأمور القديمة التي ظلت في مكانها كما هي، حيث استمر الجنرالات الكبار في أماكنهم في الجيش، وحافظ الرأسماليون على ملكيتهم للمصانع، والإقطاعيون على ملكيتهم للأراضي، كما استمرت الحرب الإمبريالية على قدم وساق.

في أبريل 1917، عندما عاد لينين إلى روسيا، كان هناك 10 آلاف عامل وجندي في استقباله في محطة فنلندا في العاصمة بتروجراد. في وسط الحضور، استقبله رئيس سوفييت بتروجراد وقتها، الزعيم المنشفي تشيخيدزه، بباقة من الورود، وقد صاح قائلاً: "نحن نرحب بك باسم الثورة الروسية المنتصرة". أما لينين فقد أزاح الورود جانباً والتف إلى آلاف العمال والجنود الذين حضروا لاستقباله، وقال: "أي ثورة منتصرة تتحدثون عنها؟ لقد أطحنا بالقيصر! والثورة الفرنسية أطاحت بالملك في 1792. الرأسماليون لازالوا يمتلكون المصانع، والإقطاعيين لازالوا يمتلكون الأراضي، والحرب لا تزال مستمرة.. فلتسقط الحكومة المؤقتة.. فلتسقط الحرب.. الأرض والخبر والسلام.. كل السلطة للسوفيتات"، هكذا يصف المؤرخ الشهير سوخانوف المشهد. ومنذ 1917 حتى الآن، من اليقين أن الكثير من الثورات قد اندلعت في أغلب بلدان العالم، إلا أن كل هذه الثورات توقفت في منتصف الطريق، وبالتالي انتهت بثورة مضادة قضت على المكتسبات التي حققتها ، وحتى لو استطاع دعاة الملكية البرلمانية بالمغرب انتهاز فرصة 20 فبراير لانتزاع المطلب وتوقفوا عنده لتم الالتفاف عليه من طرف الثورة المضادة ، لأن الفعل الثوري دائم الحركة ولأن من قوانين الدياليكتيك ، أن لا شيء تابت الكل يتغير ، الكل يتحول . والحق يقال أن حجم الحبر الذي سال على الورق حول مصطلح الملكية البرلمانية كثير وقد أدخل اليسار بنقاش هامشي صرفه عن مهمته الرئيسية " الوصول للسلطة \ والقضاء على الطابع ألمخزني الاستبدادي للدولة \ الدولة الديمقراطية الشعبية الوطنية . وجعله يناقش القشور عوض الجوهر فليس الأهم هو شكل النظام بل جوهره ، ليس المهم هو نظام ملكي برلماني بل المهم هل هذا النظام ديمقراطي أم لا ؟ ، ليس المهم هل النظام جمهوري بل هل هو ديمقراطي أم لا ؟ وهذا هو جوهر الصراع ككل . 

وقبل الختم أجد أن مطلب الملكية البرلمانية يتماشى والخطاب الذي يروجه المخزن حول استحالت التخلص من المؤسسة الملكية بدعوة أنها الحافظ لوحدة البلاد واستقرارها وهو تبرير مخزني يروج له لتبرير تواجده الدائم وإن تماشى اليسار مع هذا التبرير فإنه يفقد طابعه اليساري ويسقط في الطرح المحافظ ، ولكن التساؤل الذي وجب على دعاة الملكية البرلمانية الإجابة عليه هو هل الوصول للملكية البرلمانية سيتم عن طريق المشاركة في مؤسسات من صنع المخزن نفسه ؟ ولعل تجربة الإتحاد الاشتراكي أكبر وأوضح جواب على السؤال .