عادة ما يطرح مشكل "منهج التدريس " الناجع والفعال لتلقين المعارف الأساسية للفئة المستهدفة ، خاصة في ظل بروز مؤشرات تثبت فعاليته أو عدم مواكبته للمستجدات ، وأحيانا إغفاله للمرتكزات التي تم تدريب أساتذة المستقبل عليها ، يكفينا فقط دراسة مؤشر "الرسوب  " _المؤدي إلى الهذر المدرسي في غالب الأحيان_ لاختبار نجاعة المنظومة التعليمية ، بارتفاعه في مراحل التعليم الأساسي ، نستنتج أن المشكل قابع بالضرورة في السياسة اللغوية الممنهجة ، لأن المتمدرس في هذه المرحلة ، مطالب بتحسين مستواه في مهارة القراءة والكتابة والتواصل ، أي بالتدرج في تلقي المهارات الأساسية للتعلم .

للسياسة اللغوية (politique linguistique) دور مهم في تنشئة المتمدرسين على نظم بيداغوجية مضبوطة ، تستجيب للواقع اللغوي بالبلد كما تعمل على تجسيد الثقافة الأنتربولوجية للمجتمع ، مع استحضار نظرية السوق اللغوي(le marché linguistique)  للسوسيولوجي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) ، حيث أن فرض نظم لغوية تعتريها هزات على المستوى الديداكتيكي  (le plan didactique) ، مع تكوين اطر معتمدة في هذا المجال لا تتمتع بأدبيات الخبير (déontologie de l’expert) ، من شأنها خلق جيل لا يتقن مهارة القراءة والكتابة فما بالك بالتواصل !

حقيقة لا يختلف عليها اثنان ، اللغة "الفرنسية "  تتسيد السوق اللغوي بالمغرب ، نظرا لمحددات تاريخية مرتبطة بحقبة الاستعمار الفرنسي ، فضلا عن كونها لغة الاقتصاد والإدارة والإعلام ، لغايات منها : البروتوكولات السوسيو-اقتصادية والعلاقات الجيو-إستراتيجية (رابح –رابح) ، بين قادة البلدين ، مما دفع بأغلب المسئولين المغاربة لاختيار بلد "حقوق الإنسان" مجالا خصبا لاستكمال الدراسات العليا ، لذا فوجودها يكتسي طابعا تكامليا ، بين استحضارها في الاقتصاد وتأثيرها على ذهنيات المجتمع المغربي ، إلى حد أن المغربي يتحدث بنكهة تجمع بين اللغة الأم والفرنسية ، فأصبح قرار اعتمادها كلغة للتدريس على الرغم من تراجع تأثيرها دوليا ، قرار يندرج ضمن سياق التكاملية بين الثقافة العالمة والشعبية ، فاعتمدت في جميع مراحل التعليم ، فكيف يبدو هذا الاعتماد ؟

ننطلق من التعليم العالي ، وتحديدا "الكلية "، التي تعمل بمعية مراكز تكوين أساتذة المستقبل على إخراج عشاق لغة "موليير"إلى ميدان التدريس، فبعد التغيير الجذري الذي طرأ على نظام الوحدات، بالتحول من أربع وحدات مركزية تندرج ضمنها محاور مضبوطة إلى الانتقال نحو تركيز الوحدات لتشمل محاور بعينها ،  فتم بذلك تقليص عدد المواد في خطوة ستهدف إلى تيسير التعلمات واستجابتها لمنظومة الكفايات ، أي التقليص من 32 إلى 24 مادة ، ويشمل النظام الجديد الاهتمام بالدعامات التالية : الأدب (la littérature) ، المسرح (le théâtre )، الترجمة (la traduction) ، قضايا التداخل الثقافي l’interculturalité) )، اللسانيات (la linguistique)، التاريخ (l’histoire).

الناظر للجدولة البيداغوجية ، لا يمكنه إلا التنويه بالبرنامج الممكن وصفه بالتكاملي والمنسجم مع ما يتم دراسته بدبلوم الدراسات العليا ، برنامج موحد على صعيد الجدع المشترك الممتد لسنتين ، على أن يتم تفريع البرنامج إلى تخصصات والتي تنحصر في الغالب بين تخصصين أساسيين هما : الأدب واللسانيات ، باستثناء بعض الاجتهادات التي تتم في بعض الكليات بإدراج منظومة التواصل كتخصص أو الترجمة ، بغية تنويع المعارف وإعطاء إشعاع قوي للجامعة المغربية، ومواكبتها للمستجدات التي يعرفها سوق الشغل وكذا تصويب الخلل البيداغوجي الذي من شانه غض الطرف على منظومات أضحت في صلب الدراسات المعمقة بالبلدان المتقدمة.

بالعودة لدراسة المقتضيات المنظمة للدراسة بسنوات الجذع المشترك ، نكتشف "الشرخ " ،  بتخصيص 6 وحدات للأدب وقضاياه ومفاهيمه وأنواعه ، أما اللسانيات فتم اعتماد 6 وحدات لتقريب الطالب من المفاهيم الجديدة في الحقل اللغوي ، يبدو أن المساواة بين المكونين ، مسلسل جديد من بيع  الوهم للجسم الطلابي ، أولا : لكون اللغة الفرنسية تتسم بصفة "الأجنبية" ، لذا وجب الاهتمام بمنظومة اللسانيات المتميزة بمواكبة المستجدات والمكتسبة لصفة "العلمية" مما سيسهل على الطالب الانصهار التدريجي والفعال في التحليل الأدبي وخدمة القضايا المطروحة في المجال الثقافي والأدبي، فالمناهج اللسانية لها قيمتها المضافة في دراسة الأدب ، بخلاف هذا الأخير الذي لا يمكنه تقديم الإضافة للحقل سالف الذكر، ثانيا :  إعادة صياغة المواد الأدبية بطريقة أو بأخرى من اجل استهلاك الحيز الزمني وتمرير السنوات بدون إضافة نوعية تقدم ، على سبيل المثال ، في الفصل الأول : تدرس مادة أصناف  النصوص السردية المعروفة بلغة "موليير" تحت عنوان : (typologie des textes narratifs) أما الفصل الثاني فالمادة تكرر بصيغة  أخرى بتسمية جديدة (catégorie du récit)  ، وفي المادتين يتم تحليل أنواع النصوص السردية ونمطية السرد ، غير أن الغريب ، أن بعض الأساتذة يفضلون الاشتغال على التحليل الأدبي ، وإهمال الجانب النظري ، الذي من شانه إغناء البحث في هذا المجال ، ليبقى السؤال : أليس من الممكن تحويل المادتين لواحدة وتوفير مزيد من الحيز الزمني لقضايا أخرى ؟

في نفس السياق ، نستشف التناقض حد  الهذيان  ، فيما يتعلق بمقرر اللسانيات ، من خلال تدريس الصواتة (phonétique)   بالفصل الأول ، المعجمية (lexicographie) بالثاني ، المصطلحية (lexicologie) بالثالث ، وهي فروع تنضوي تحت لواء اللسانيات ، ثم نأتي للفصل الرابع وندرج مادة تسمى :   (initian à la linguistique) أي مدخل إلى اللسانيات ، يهدف هذا "التيه" إلى خلخلة النظم وقلب موازين التفكير المنهجي ، ليبقى السؤال : إلى أين سندخل وقد تم دراسة فروع اللسانيات سلفا ؟  أليس من المعقولية إدراج الوحدة بالفصل الأول عوض الرابع ؟

ما يزيد الأمور تعقيدا، هو تخصيص ثلاث وحدات لمنظومة المسرح، مع العلم أن وحدة إلى وحدتين كفيلة بدمج الطالب في التالف مع الأنواع المسرحية، كما أن الملاحظ هو عدم مسايرة الوحدات المسرحية للإيقاع التاريخي لباقي المواد، فيدرس المسرح القديم (le théâtre classique)  في الفصل الثالث المعنى بدراسة الثقافة الفرنسية خلال القرن التاسع عشر ،  أي تأخر الوحدة عن السياق بقرنين من الزمان ، ثم تتسع الفجوة في الفصل الرابع بتدريس المسرح الرومانسي (drame romantique).

يضاف إلى ذلك ، غض الطرف عن عدد من النظم التكوينية ، والتي أضحت تحظى باهتمام العديد من المتدخلين في قضايا اللغة ، تاركين المجال لتدريسها في سنة التخصص ، مما سيخلق هوة سحيقة بين الطلاب، فقد يستفيد احدهم من الرباط بفعل توفر الموارد البشرية المباشرة بخلاف طالب يدرس في مدينة كالرشيدية ، والذي سيجد نفسه مضطرا للاكتفاء بما تجود به الأيام ، لعل ابرز المنظومات : التواصل (la communication) ، الانفتاح الإعلامي (l’ouverture médiatiquee)، التشريع المدرسي (législation scolaire) ، وتهدف هذه البرامج إلى خلق مزيد من الانصهار بين الطالب وفضاءه المؤسسي ، فضلا عن منحه صفة "الفرانكفوني"بدون منازع ليبقى السؤال : ما سبب غض الطرف عن برامج ستحول الصحراء إلى واحة ؟

صفوة القول ، للتخطيط الاستراتيجي دوره الفعال في النهوض بمختلف الشرائح الاجتماعية ، وكلما كان التخطيط سليما وإلا تم جني ثمار تكوين رجال دولة ، قادرين على إيصال رسالة التعليم الكونية ، أما في حال كان التخطيط عبثا في عبثا ، فان الأمر يصب في صالح مخطط "صناعة النخب الاديولوجية" ، مما سيضمن الابتعاد التام عن المهنية ،  لان المنظومة لا تخضع للتفكير الشمولي ، الشيء الذي سينتج عنه "أساتذة " فارغين فكريا وثقافيا ، لذا فالدعوة تتجدد لإصلاح هذا الشرخ قبل أن ينتشر في جميع أنحاء المنظومة التدريسية المغربية.