يناير 1984
يربط نيتشه بين وضعية النوم و بين الأحلام:وضعية الأرجل المستريحة -التي ألِفت الأرض- تثير ما تثيره في الدماغ من أحلام الطيران و غيرها.
وضعيةٌ تُربك الإدراك..هي بالضبط ما قصده الجلاد حين علقني من رجلي على ماسورة في قبو كوميسارية جامع الفنا بمراكش .
رأسي إلى أسفل،رجلاي معلقتان، يداي مقيدتان وراء ظهري،على عيناي عصابة من ثوب أسود كثيف،وصمت مخيم على المكان إلا من تأوهات و قهقهات بعيدة.
تركوني نصف ساعة،و ربما أكثر أو أقل،حاولت أثناءها أن أرفع رأسي بشكل لاإرادي عدة مرات.
فقدت الإحساس بالزمان و المكان.أحسست بالضعف و بكيت.
سبقته رائحة السجائر،همس في أذني : " سمع زامل بوك..اليوم سأدفنك بيدي هنا كما دفنت كثيرا من حشرات الشيوعية قبلك".
بعد الدقائق الأولى من الجلْد، لم أعد أحس سوى بألم داخلي،كلما تنفست أحسست بوخز في صدري،كسر المعتوه ضلعاً .
لمَ يعذبني؟ بالتأكيد ليس من أجل نزع اعتراف أو معلومات،بل لأنه سادي ككل عناصر الشرطة.
تتوقع وأنت معتقل أن شيئا ما سيحصل..أن العائلة ستبحث عنك، أن العالم سيتوقف..أن معجزة ستحصل تجعل الأمر كله كابوسا فتستفيق وتتابع حياتك،لكنك تصدم حين تعرف أن لا أحد يتسوق لك.خُيّل إليّ أني أسمع صوت هتافات وشعارات تقترب أكثر فأكثر.
أغمي عليّ مع توالي الضربات،همس: " حتى لو اقتحموا الكوميسارية و هرّبوك اليوم،سألاحقك أينما ذهبت،سأكون "جافيير" و ستكون " جون فالجون" ديالي..اعقل عليّ،الكوميسير الحاج رضا بندحمان."
عقلت عليه فعلا،طوال سنوات كنت أبحث عنه،لأطبق معه " الإنصاف و المصالحة "،ولو وجدته عجوزا مقعدا ،سأقول له:"لا أسامح مثل فالجون الطيب،ولن أعفو عنك" كنت أمني نفسي بتكسير أضلعه.
لما وجدت قبره عام 2003 في مقبرة مدينة اليوسفية،لم أستطع أن أتبول عليه،سامحته وكرهت نفسي.

***
دجنبر 1983
مرت أشهر وأنا في مراكش،أعمل في مقهى "الأطلس" غواصاً، أغسل الأواني،من الثامنة ليلا إلى الثامنة صباحا مقابل مئتي درهم في الشهر و الوجبات الثلاث،أبقى جامدا أمام نافذة صغيرة،أنتظر النادل الذي يضع على الرف الكؤوس و براريد الشاي المستعملة فأغسلها.
حين يقل عدد الزبناء مع منتصف الليل،أنظف المقهى كله بمساعدة النادل،ثم أقشر كيسيْ بطاطس و بصل على مهل،هي الخضروات التي يجب أن يجدها الطباخ جاهزة عندما يأتي صباحا.
أنام على كرسيين أو أتسامر مع النادل حتى الساعة الخامسة حين نفتح المقهى مرة ثانية لنستقبل الشيوخ المراكشيين وهم يخرجون من المساجد .
الثامنة صباحا يأتي بديلي الذي يعمل نهارا،لم تعد الشمس تزعجني،أصبح لوني أصفرا مثلها،قال لي الحاج صاحب المقهى :"نعاس الليل ليس مثل نعاس النهار،طبيعي أن تصفرّ "
أصعد الحافلة قرب مسجد الكتبية إلى حي الداوديات الطلابي حيث أسكن في غرفة مع طالبين من لخصاص، يدرسان القانون.
أستفيق على الساعة الخامسة زوالا على وقع النقاشات في الغرفة،بين الطالبين و أصدقائهم،فرعوا لي رأسي : من يتحمل مسؤولية فشل المؤتمر 17 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب،هل القاعديون أم الاتحاديون؟ ومن هم القاعديون الحقيقيون؟ كان فصيل القاعديين حينها على وشك الانشقاق،حين ظهر منهم من يريد أن يعيد الارتباط مع حركة إلى الأمام.كانوا يدخنون بشراهة وهم يتحدثون عن كيفية مجابهة الزيادات الأخيرة..علمت من نقاشاتهم أن الحسن الثاني طبق أخيرا برنامج التقويم الهيكلي الذي أوصى به البنك الدولي،مصاريف حرب الصحراء أثقلت كاهل الميزانية فزاد من أسعار الزيت و السكر و الشاي،بل و فرض على الطلبة و التلاميذ رسم 100 درهم كواجب تسجيل.
كانوا يتحدثون عن الثورة القريبة وكنت أضحك أنا تحت الغطاء،المراكشيون كما عرفتهم كانوا ودعاء جدا حتى أنهم لا يتخاصمون ولا يتنازعون،جندي مخزني واحد حينها كان يطوف على كل أصحاب الحوانيت فيمدون له المال صاغرين مرتعدين.
كان الطلبة الاَخرون يترددون في متابعة النقاش حين يرون كومة تتحرك في ركن الغرفة القصي،كومة كانوا يحسبونها أغطية،فإذا بها الدغبوش مستيقظا، كنت أنهض مباشرة لأشعل سيجارة و أقول لهم "احلموا".
كان الخوف و الرعب يملأ الأجواء ولم يكونوا يثقون كثيرا في الغرباء.

يوم الإثنين هو يوم الراحة حيث ينوب عني ابن الحاج الطاهر أهبالي صاحب المقهى،فأذهب مع الحاج الذي أصبح صديقي الى بساتين ضواحي مراكش رفقة أصدقائه الشيوخ "لنتبسْتن" كما يقول المراكشيون، يسمونها أيضا النزاهة:يجلسون تحت أشجار الزيتون، يلتهمون الطنجية و يغنون و يتبادلون النكات البذيئة.
أحيانا أخرى أتسكع في الجامعة ،أحضر نقاشات الطلبة،الفصيل القاعدي يشن هجوما كبيرا على الاتحاديين بسبب وطنيتهم و شوفينتهم حين ساندوا حرب الصحراء،والاتحاديون يقولون أن الصحراء مغربية و أن سي بوعبيد على حق.
كانت سبورات الفصائل في الجامعة مملوءة بأسماء الشهداء و المعتقلين و البيانات. الجامعة كلها كانت عالما اَخرا،يُنبيء بالثورة و مجتمع مغربي مختلف:لقد كانوا يضعون المفقودات حتى حافظات النقود المملوءة في ركن خاصرهن إشارة الجميع.
قبل أن أصل إلى المقهى كنت أعرج على جامع الفنا لأستمع إلى روايس سوس وهم يعيدون غناء روائع الحاج بلعيد،لطالما كرهت الروايس،لم أكن أتذوق موسيقاهم و أغانيهم التي تنتهي دوما ب " و الله ينصر مولاي الحسن"،كنت معجبا بالمجموعات الشبابية كإزنزارن . حينها كانت مراكش جزءا من سوس،وكان الجميع يتحدث الأمازيغية.
تعرفت على رايس احماد حين شاركني يوما "جوان" حشيش،فأصبح يقدم لي كرسيا في الحلقة لأجلس عليه،حين تكتمل الوصلة و يحين موعد طلب المال من الحاضرين،كان يتفاخر فيحرجني بأن يشير إليّ ويقول للعامة إن الحلقة ليست مجرد حلقة حين يحضرها أستاذ مثل السي بوجمعة.
أستاذ يغوص يوميا في فقاعات الصابون يا بن الكلبة،حتى أن أظافري تجعدت.
كان المال قليلا و الجموع في جامع الفنا كثيرة لا شغل لها إلا حضور الحلاقي، لم يفهم الرايس احماد ما الذي يحصل، شرحت له أن الحكومة رفعت الأسعار، و أن الفقر سيزداد.
كان البؤس منتشرا في مراكش، كل شباب القُرى ملؤوا الحافلات و جاؤوا يبحثون عن عمل هنا.
لأول مرة في المغرب لا يستطيع خرّيج الباكالوريا أن يجد عملا في الوظيفة العمومية.

***
يناير 1984
بدأ الطلبة إضرابهم،لم يلتحقوا بدروسهم و بقي الجميع يحضر يوميا للكليات فقط للنقاش ،كان هناك شبه كبير بين حلاقي جامع الفنا و حلاقي الكليات. قرب الجامعة كانت شاحنات كثيرة للجنود ترابض في سكون . لم يكن النظام يكثرت لإضرابات الطلبة إذا لم يخرجوا إلى الشوارع.
ثم بدأ إضراب تلاميذ "ثانوية شاعر الحمراء"،رافقت صديقي الطالبين إلى الثانوية لكي أتأكد،سمعنا هتافاتهم من وراء السور:" هذا تعليم طبقي،ولاد الشعب فالزناقي والمدير حمار استقلالي".
في اليوم التالي،رضخ المدير المنتمي لحزب الاستقلال فترك الشرطة تدخل إلى الثانوية،كانت مجزرة لم يسلم منها حتى الأساتذة.
انتشر الخبر بسرعة في كل المدينة،رغم الرعب و كمّ الإشاعات التي نشرها موظفو المخابرات كان الغضب واضحا على وجوه المراكشيين.
أقفل الحاج المقهى كما أغلقت كثير من المحلات التجارية،تبخرت شكوكي عن احتمال عدم وقوع ثورة شعبية مغربية حين أسرّ لي رفيقي الطالب بمعلومة ليلتها: "غذا سنوزع بيان حركة" إلى الأمام"،وسننظم انتفاضة في كل المدن المغربية"، لم أصدقه إلا حين قرأت البيان:
"ليكن في علمنا أن الوضعية الراهنة المريرة ليست نتيجة لحرب الصحراء التي يشنها النظام الملكي المهزوم على الشعب الصحراوي البطل، و التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبنائنا، و ليست نتيجة الجفاف كما يدعي الحسن السفاك، بل راجع إلى نهب خيراتنا من طرف الأمريكان و الأعداء"

لم أستطع النوم.
في الصباح وجدت نفسي مع الطلبة و النقابيين أوزع البيان على المارة،شارات النصر في كل مكان،وزغاريد المراكشيات تنطلق من كل النوافذ،فيكل حي تشكلت مظاهرات و رُدِّدت شعارات عجيبة كانت تجعلني أرتعد فرحاً:" ماطيشة ولات ربحة و الحسن خصو ذبحة"..
اختفت الشرطة.بين شعار و شعار كانت الجموع تتهامس: "لقد شنقوا العامل على الإقليم..لقد دخلوا إلى سجن بولمهارز و حرروا السجناء... حي سيدي يوسف بنعلي احترق بالكامل"
لم أعد أجد الطالبين بين الجماهير الغاضبة،سرت في الصفوف صداقة غريبة،كنا كلنا نحس بالأخوة.
بُحّت حنجرتي،كانت النساء تخرجن من أبواب منازلهن و تمدننا بالماء و السكر ومع منتصف النهار وصلت مظاهرتنا إلى ساحة جامع الفنا، سمعت أخبارا أخرى هناك:" الحسيمة و الريف كله و القصر الكبير يشتعل".
لم تكن أخبارا مطمئنة،بدون كازابلانكا و فاس و المدن العمالية لن ينجح شيء.
توقفنا كثيرا في جامع الفنا،الراديو يبث موسيقى أندلسية و أخبارا عن مؤتمر ما سينظم في المغرب.
أين القيادات؟ أين التنظيم؟ أين "إلى الأمام"؟ كانت الجماهير متحمسة ولكن تائهة.
انتشرت الإشاعات: "الجيش يقمع الريف بالرصاص الحي،لقد قطعوا خطوط الهاتف عن مراكش كلها،طائرات الهيلكوبتر تنقض على المتظاهرين بالحسيمة".
على الساعة الثالثة زوالا تحركت الجموع الغاضبة عبر شارع "البرانس"،محلات كثيرة كانت منهوبة هناك،تحركت بسرعة إلى مقدمة المسيرة،وجدت شبابا يناقشون إمكانية اقتحام القصر الملكي بالمامونية القريب من المستشفى.
أحسست بالخوف،اقتربنا من بوابة القصر و ارتفعت الشعارات الغاضبة عن الحسن الثاني السفاك..كنت أحاول أن أخرج من المظاهرة لأرى الشوارع الخلفية،حين دوّى الرصاص فجأة،كان الشارع المؤدي إلى مستشفى المامونية مملوءا عن اَخره بأفراد الجيش بخوذاتهم و عتادهم الكامل كأنهم سيخوضون حربا ضد جيش نظامي اَخر..
تفرقت المظاهرة،سقط الكثيرون بين الأرجل و ارتفع الصراخ،كنت أجرى بلا وجهة حتى وجدت نفسي مع أربعة متظاهرين في زقاق ضيق،اختبئنا وكنت أسترق النظر إلى الشارع الرئيسي،توقفت شاحنة عسكرية و قبل أن يقفز منها الجنود،فُتحت نافذة منزل ومنها سكبت سيدة زيتا ساخنا عليهم،انتشر الجنود على الأرض وهم يحاولون خلع ملابسهم التي التصقت بهم صارخين بينما مزق الرصاص لوح النافذة الخشبي.
لاتزال الشعارات تُسمع من بعيد،دخل من كان معي إلى منزل بعد أن دقوا الباب طالبين الحماية من عائلة.رفضتُ الدخول، هذه ثورة و يجب أن أشارك فيها خصوصا بعدما رأيته من شجاعة المغاربة.
كانت موجات القشعريرة تجتاح جسدي ليس من خوف بل من فكرة تروادني:يجب أن أحصل على قطعة سلاح،يجب أن يتسلح الشعب،كنت متيقنا أن النظام المغربي قد سقط.
انتظرت حتى تحركت شاحنة الجيش و تبعها الجنود بعدما ملؤوها بجرحاهم وما إن خرجت من الزقاق، حتى وجدتني في منتصف الشارع بين الجنود الذين تراجعوا و بين سيارة للشرطة تتقدم على الجثث يُطل من نافذتها كوميسير كهل يحمل رشّاشا.
كان الصراخ يملأ قاعة الحجز بالكوميسارية،الكثيرون يقسمون ببراءتهم،دخل ضابط جيش و قال للكوميسير : " هل هؤلاء من هاجموا القصر؟احرقوهم ..جد بوهم".
تحلق ضباط الشرطة و الجيش حول تلفاز ،أخرس شرطي الجرحى المتأوهين بضربات من عقب بندقتيه لكي يستمعوا بخشوع إلى الحسن الثاني،كان الأخير غاضبا ولكن صوته ملأه الخوف،أنا أعرف الخوف.
تحدث عن المؤامرة و قرأ بيان حركة إلى الأمام، شتم سكان الريف،ثم قال بأنفة ملكية أنه ساخط على مراكش و أنه لن يزورها بعد اليوم،ثم أمسك ورقة و قال أن الأساتذة هم سبب كل شيء و أنهم معروفون بأسماءهم واحدا واحدا.
بعد حصة التعذيب،في منتصف الليل،أركبونا شاحنات تابعة لمكتب الشاي و السكر.
الشاي و السكر كان السبب في كل شيء.

***
في زنزانة صغيرة رطبة ومظلمة بكوميسارية درب مولاي الشريف،كنت متكوما على نفسي،تعلمت مع الزمن أن أضغط برفق على قفصي الصدري حتى يختفي ألم ضلعي المكسور.
لا أدري إن كنت أهلوس ولكن فجأة ظهرت فتاة بوجه بارز العظام قمحي اللون،كانت عيناها كبيرتان و تلمعان،وراءها كان يقف شرطي ينظر يمينا و يسارا يقول لها " اسرعي ..سربي... سربي ".

-من أنت؟
-أنا سكينة ،ابنة الجنرال أوفقير، لقد هربنا من السجن لكنهم قبضوا علينا و احتجزونا هنا في انتظار ترحيلنا.
-ما تاريخ اليوم؟
-الثلاثاء 23 أبريل 1987، وأنت ما اسمك؟
-بوجمعة الدغبوش من مجموعة مراكش.
-سأصلي من أجلك.

أمسكت يدي،بدأت بتلاوة صلاة بالفرنسية تبتهل فيها إلى مريم العذراء.
قبل أن تختفي هي و الشرطي صرخت: " courage courage".