يشير العروي أيضا إلى أن إعادة تشكيل المخزن "يتبع نفس المنطق الذي اتبعه نظام الحماية كما بدأه ليوطي: هناك نفس الدور التنظيمي للجيش، نفس التشبع بالتقاليد القديمة ونفس الاحترام للإسلام الشعبي،ونفس الريبة إزاء سكان الحواضر وكأنهم غرباء، ونفس الكراهية للقومية العربية وللمذهب الوهابي ]...[، كذلك تشجيع الركون والابتعاد عن السياسة، والتساهل مع من يسعى لربح المال". عام 1994 وجَّ ه الحسن الثاني رسالة ملكية إلى المساهمين في ندوة وضمنها هذا الحديث النبوي: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله". وهكذا فقراراته لا تخضع للنقاش أوالتحفظ.
ولكي تكون سلطته مطلقة وشرعيته لا جدال فيها فقد ارتكزعلى ثلاثة أسس :
- الأول هو البيعة. يوم اعتلائه العرش يأتي زعماء القبائل، وكبار الجيش والشرطة وأعضاء الحكومة والأعيان لتجديد الولاء للملك بالانحناء أمامه وهو على صهوة الفرس. هذا التقليد الفريد أصبح طقسا سنويا ليرمز إلى إعادة تأكيد الطاعة .
- الثاني هو إدراج فصل في الدستور وهو الفصل 19 الذي يمنحه صلاحيات كاملة بصفته الممثل الأسمى سواء في الميدان الروحي أو السياسي. لقد كتب بنفسه المواد الأخرى من الدستور، ووزع صلاحيات الأطراف الأخرى وقيدها باستثناء سلطته. وقد كرس الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وأضاف سلطة رابعة هي سلطته التي تجعله فوق كل الآخرين .
- الثالث كون جميع النصوص الرسمية، سواء أكانت من الدستور أو المراسيم الملكية أو حتى إصدار قانون المالية الجديد، تتصدرها دوما الإشارة لأمير المومنين، هذا اللقب السياسي والديني والاجتماعي الذي يجعل منه القائد الأعلى للمسلمين .
فالفصل 19 من الدستور الأول الذي سطره الحسن الثاني بنفسه ينص على ما يلي: "الملك، أمير المومنين، الممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، يسهرعلى احترام تعاليم الإسلام واحترام الدستور. وهو حامي حقوق وحريات الأفراد والجماعات. وهو الضامن لاستقلال الأمة وضامن الوحدة الترابية للمملكة في حدودها الحقة." يرجع هذا اللقب "أمير المومنين" إلى تقليد يتيح بالإضافة إلى السلطة الدينية والروحية أن يبقى سيد اللعبة السياسية. إنه يسيطر على السلطة التنفيذية،ويقوم بتعيين الوزير الأول والحكومة وهما مسؤولان أمامه ويترأس مجلس
الوزراء. كما أنه يحسم في اختيار رجال القضاء وفي قرارات المشاريع وله سلطة حل البرلمان كما تخضع له كل التعيينات الحساسة.
كل هذا الاهتمام بالماضي وتقاليده ساعد الملك الحسن الثاني في تدعيم شرعية المؤسسة الملكية ومكنه من أداة لفرض الطاعة المطلقة التي يلتزم بها كل فرد من الرعية.
بعد ظهر يوم خريفي وممطر من عام 1996 ، كنتُ )إيريك لوران Eric Laurent ( برفقة الحسن الثاني في أحد الصالونات المجاورة لميدان الخيل، فإذا به يفاجئني بمكاشفة غريبة: "في السياسة كما في الحياة عموما، عامل الحظ مهم للغاية. خذ مثلا أسرتي العلوية. لقد هاجروا من العربية السعودية وقدموا إلى منطقة تافيلالت بالمغرب ولم يكن لهم نفوذ بارز. في إحدى السنوات جاءت أسراب الجراد فأتلفت المحاصيل، فغضب الناس وأكثروا من الدعاء ولكن الجراد عاد في الموسم المقبل، فلجأ الناس آنذاك إلى أجدادي لكونهم أشرافا من سلالة الرسول عليه السلام وطلبوا منهم أخذ زمام السلطة ففعلوا." سكت قليلا ثم أضاف ووجهه مبتهج: "فتوقفت غارات الجراد لحسن الحظ " .
كان يتصرف بصرامة كبيرة كلما تعلق الأمر باحترام صلاحياته التي حددها بنفسه ليتحكم في كل الخيوط. ذات يوم في قصر إفران، كان عشرون شخصا ببذلهم الداكنة اللون ينتظرونه في الصالون. البعض كان يتحدث ولكن الأكثرية كانت صامتة. كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال، انتظم الجميع في صف طويل صامت. خرج الحسن الثاني بعد ذلك بقليل ليستقبل الجموع، فوقف منتصبا ويده اليمنى ممدودة وبدأ الحضور يمرون الواحد تلو الآخر فيقبلونها في خشوع. فجأة رآني الملك فقال: "آه، أنت هنا، سوف نقوم بجولة في
السيارة، ستركب إلى جانبي"، ثم استدار وأشار على ثلاثة من الحشد الواقفين في صمت قائلا: "أنت، وأنت، وأنت، اركبوا خلفي. أنتم بدينون لكن حاولوا أن تتزاحموا".
كنا يوما في إحدى الضيعات الملكية، وكان الحسن الثاني قد جهز المكان بصهريج اصطناعي لتربية السمك، وقرر في ذلك اليوم أن يقوم بصيد بعض سمك "لاترويت" السلمون المرقط. قدم له أحد الخدم قصبات الصيد وهو يرتعش.. بعد خمس محاولات، طلب منه أن يأتيه بقصبة الصيد السوداء. حاول مرة أخرى لكن دون نتيجة.. وكنت أسمعه يتمتم: "آه، السمكات لا تريد أن تطيع 1 ." عشرة أيام بعد ذلك، وهذه المرة في قصر مراكش، كان هناك خمسة عشر جنرالا ينتظرون جالسين وهم واجمون في قاعة فخمة مجاورة لمكتبه. كان الحذر يطبع العلاقات التي كانت للحسن الثاني مع جيشه منذ المحاولتين الانقلابيتين اللتين استهدفتاه... فجأة فتح الباب وخرج الملك ثم اقترب من
رجل في عمر الخمسين ذي شارب كثيف.. وضع الملك يده على كتفه ثم ربت بسرعة على وجنته وكأنه يداعب طفلا صغيرا ثم قال: "إذن هذا هو الجنرال الصغير الذي يرغب أن يذهب في زيارة لأسرته.. حسنا، موافق، إني أسمح لك بالذهاب". انحنى الرجل على ركبتيه وقبل يده. حينها قال الحسن الثاني لمرافقيه: "سأراكم فيما بعد" 2 . ساعتين بعد ذلك، كانوا دائما في نفس المكان ينتظرونه ولكن هذه المرة في ظلام دامس حيث لم يتجرأ أحد منهم أن يلامس زر الكهرباء ما دام الأمر السامي لم يصدر بذلك...
الانتظارالذي كان يفرضه عادة الحسن الثاني على ضيوفه، كان يفهم كرسالة ملتبسة موجهة لمن يعنيه الأمر. فإذا كانت المدة قصيرة، أي أنها لا تتجاوز ساعتين، فمن الواضح أن الضيف المعني لا يزال يحظى بعطف الملك. ثلاث أو أربع ساعات من الانتظار كفيلتان بإفهام المعني أن الملك ليس راضيا عنه تماما، لكن إمكانية العفو تظل قائمة.. لكن عندما تفوق مدة الانتظار الأربع ساعات، فالرجل يوجد حتما في خانة المغضوب عليهم.
هذا ما حدث أحيانا مع الجنرال أوفقير الذي كان يعتبر ذراعه الأيمن، حينما كان ينتظر يوما كاملا، وكذلك خليفته الجنرال أحمد الدليمي، الذي اغتيل مباشرة بعد ذلك. لا أحد كان يفلت من هذا النوع من المعاملة بما في ذلك ولي العهد.
كنا يوما في قصر الرباط، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة زوالا.. دخل الحسن الثاني بوجه مكفهر إلى مكتبه متبوعا بمستشاريه. ومن دون أن يتوجه بالتفاتة أو بكلمة للشاب الصغير الذي كان ينتظر واقفا أمام باب المكتب مرتديا جلبابا تقليديا.. ويتعلق الأمر هنا بمن سيصبح محمد السادس. أربع ساعات بعد ذلك، كان ولي العهد لا يزال جامدا في مكانه من دون حراك.. ومع ذلك لم يستقبله والده.