محمد الطائع
كعادته في فن الغدر ، سرق منا هدا المسمى" الموت" انسانة و مناضلة ومواطنة مغربية تجمعت فيها صفات النبل و الصفاء. نعم ،هاهو هذا المسمى" الموت" يأخد منا " زهور" لا تذبل. رحلت زهور العلوي الى " هناك" وهي التي عاشت لكل ما يعج بالحياة " هنا". صامت عن الكلام منذ زمن،ورسمت آهات المرض اللعين الذي داهمها على حين غرة، والحسرة على الذي مضى وأمسى خطوط طول وعرض خريطة عيشها. في شقتها " البهية" بالطابق الثاني في اقامة ابن خلدون بحي السويسي بالرباط، أدمنت المرأة الاصغاء لصوت صمتها الشجي، في بعده الشاعري الذي يحرضها على السفر بعيدا الى أزمنة الابيض و الاسود عبر شريط ممتد من التضحيات والذكريات والامال يختزلها ألبوم صورها المؤرخ لأزهى محطات عمرها، أملا في تطويق الهراء الذي يتحرش بجمالية شطآنها الهادئة والهادرة بالقيم، وهروبا من الضجيج الاعمى والبليد الذي يتحرش بعذرية خلوتها. زهور العلوي، الانثى،الام،حرم "السيد السفير" ، المواطنة، التقدمية، بقايا مناضلة كما يحلو لها أن تنعت نفسها،مصرة على تسمية الاشياء بمسمياتها وبنفس الاصرار أيضا تحفظ للشعارات التي رفعتها و المواقف التي صاغتها وعبرت عنها في أكثر من تظاهرة وفضاء ومنصة خصوبتها القيمية وسموها،رافضة بقوة وصلابة الخوض في يم الخداع وتفاهات البرك الآسنة المنتشرة هنا وهنالك، برك الضحالة تلك ،افرطت في تسفيه الأشياء ومسخ المعنى، وتبللت فيها أحلام رقيقة ومشروعة ومواقف صادقة. هكذا أبدعت ممثلة الطبقة العاملة وسفيرة المرأة المغربية بتشيكوسلوفاكيا سنة 1968 ،وبطريقتها الخاصة،صمتا سحريا خالصا ومن نوع فريد حولته حكمتها المعهودة وقناعتها المتجدرة والأنفة المغربية المتأصلة في نفسها الى لغة فصيحة ما بعدها بيان،وسلاحا لا تصمد في وجهه الشعارات البئيسة و اليتيمة،وكذا أشباه الرجال في السوق الممتازة للزعامات المصنوعة اعلاميا والمسوقة فرضا وقسرا. نعم لقد هزمتي يا سيدتي هواة النضال بالتيمم وعرّيت سماسرة الشعارات والقضايا. هذا الاستتثناء الانثوي افلح في تحويل عبق الصمت الى صدى مدوي وملاذ امن تناجي فيه الذات ذاتها،وتستمتع وحيدة بنشوة هدير صمتها.

نعم انقلبت المفاهيم وتم تمييع القيم وتسفيه الجاد، وكم كنت حريصة الى اخر ثانية على طهارة و طراوة" المبدأ والقضية" ..اليس هذا " معنى الوجود"؟ اليست هذه فلسفة ؟

استاذة الفلسفة بثانوية مولاي يوسف سابقا،ساهمت في تكوين وتأطير خيرة الأطر والكفاءات والفعاليات الوطنية الموجودة والمتصدرة اليوم للمشهد،السياسي،الحقوقي،النقابي،الجمعوي، وساكتفي بذكر اسمين لا غير لان المجال لا يتسع ولا يسمح،وفي ذكرهما يفي الاختزال غايته: عبد اله بنكيران ومحمد الساسي. زهور العلوي، حملت جمرة الوطن في قلبها، واكتوت بهواه، وطن العقل والعقول وطن العلم والريادة وطن الحرية والحقوق وطن هازم قاهر للجهل والتجهيل والفساد وتمجيد فنون السرقة و التباهي بمعدلات الامية ؟؟؟ زهور العلوي،سخرت طاقتها وعمرها للاصغاء الجيد والمركز لهموم الوطن،وتضميد جراحه ورصد مشاكله ، والتجاوب الميداني بكل عفة وعنفوان وجرأة مع ايقاعات وآمال الشارع، والتماهي بكل تواضع مع سمفونيات آلام ابناء وبنات المغرب، فكانت في طليعة الاحداث،مبادرة و مقتحمة مواظبة في أحلك فترات المغرب المعاصر المسمى ..." وطن". طبيعي اذن، أن نجد رضاب"زهور" تفوح في اتحاد العمل النسائي كنائبة للرئيس وعضو هيئة تحرير جريدة " ثامن مارس" واللجنة التنفيذية للمنظمة الطلابية العتيدة" اوطم" سنة 1968 وعضو فاعل ومسؤول ومؤسس للمنظمة المغربية لحقوق الانسان وبصفة نائب الرئيس،فضلا عن كونها عضو المجلس الوطني للتنسيق من أجل تغيير مدونة الاحوال الشخصية والدفاع عن المرأة الى جانب العضوية في المؤتمر القومي العربي. " زهور" ( بضم حرف الزاي أي جمع زهرة) أطلقت صرخة ميلادها بالعاصمة العلمية فاس غير بعيد عن مسجد القرويين سنة 1940 ،شبت على قيم النزاهة والتواضع وعزة النفس،ونهلت من والدها وأحد شيوخ الزاوية الدرقاوية تعاليم الاسلام السمحة،تلك التعاليم الطيعة و المطواعة للعقل وقفزاته. زهور العلوي، ارتمت بلا تردد ولا مقابل ولا طمع وبمنتهى التلقائية في مشروع التغيير،وعانقت دفىء قيم الحرية و التحرير والتحرر ومقاومة"المخزن" وكلها مصطلحات باتت منقرضة في اعلام اليوم ونقاشات احزاب وقيادات اليوم. قيم وطنية صادقة، ألهبت حماس جيل بكامله أواسط القرن الماضي،فحافظت بمناعة جدابة على ديمومة العطاء والحركة ووشمت اسمها في أكثر من محطة وموقع بل قل وسمت ووشمت اسمها على ...طول مسار...كانت بهية في الحركة والقول والفعل ويشهد جميع من جالسها أو اقتسم معها " ساحة الشرف" وطموح الانتصار وحتى مرارة الانكسارات داخل الوطن وخارجه ، أن هذه " الزهور" مثال للأخلاق وعنوان للوفاء ومدرسة للنضال بكل ما يحمل هذا الاسم من قيمة ورمزية ومسؤولية وطهارة. وعليه، واعترافا بهذه الطاقة الاستثنائية و المتجددة،فقد تم تتويج " زهور العلوي" امرأة السنة في مغرب 1992 من طرف الهيئات الحقوقية والجمعوية وحتى الصحافة،كما خصص لها احتفال كبير عرفانا من الجميع بتضحياتها وعطاءها الذي لم يكن قط بالمقابل أو " عشم مغنم". الاحتفاء بزهور العلوي، هو اضعف الايمان لرد بعض الجميل لمناضلة مغربية استماتت في تطريز حدود الكبرياء و الكرامة لأنها ببساطة لا تجيد التمثيل؟؟ ولا هي محترفة ارتزاق ومقايضة الفكرة والموقف بالمال والمنصب خصوصا في زمن الهرولة الذي افرز والهب حماسة وشراهة طوابير طويلة من الاهثين والجاحدين والجهلة مكسوري الهامة والقامة،المتنافسين في ترسيم الضحالة في ابشع صورها ولا هم لهم الاّ ..الدفع كم ؟ اشعاع ومكانة زهور العلوي داخليا وازاه ذات الاشعاع والتقدير وحتى العطاء على الصعيد الخارجي من بيروت،بغداد،دمشق،القاهرة وصولا الى باريس وبراغ مرورا بالخرطوم وداكار و موسكو وواشنطن، وتم تكريم هذه" الزهور" أكثر من مرة لاسهاماتها المؤثرة ويقظة ضمير يرفض العتمة ولدفاعها المستميت عن قضايا هذا الوطن وخاصة قضايا النساء والعدالة الاجتماعية والتحرر العالمي الذي يبقى شعارا أجوفا دون تمكين المرأة من حقها وآدميتها. في مستنقع الضوضاء الذي اضربت أشعة الشمس عنه،وفي زحمة التمييع الراهنة التي بات يتنافس فيها المتملقون الجدد حول لقب " الاوقح" في اخفاء النتانة وتجميل الاقبح، حافظت " زهور" على عبقها،على قامتها الشامخة مشفوعة بتربيتها و جديتها وعفتها،واصطفت حول يقينيات وومضات سائلة تحفر عمق ذاكرة وطن برمته،برجالاته ونساءه وقضاياه، أملا في ترويض اسئلة الوطن الحارق المنفلتة من ركامات الفراغ المستفز و افواه" صبية القمامة". قليلون،تذكروك،و اقل قلة سيتذكرون صوت صمتك. زهور العلوي، ماتت ورحلت. هذا الاسم الذي كان اسير مرض ومحنة ومعاناة في تلك الشقة التي ازدحمت فيها الكتب وبكل جمالية صالون أمسى متحف،هذا الاسم الذي فضلت حاملته وشائح الصمت المزركشة بالحسرة وسط عزلة قاتلة لا تكسرها وتخف من وطأتها الا تلك العلاقة الانسانية الرائعة والرائدة والفريدة والحضارية والتقدمية بكل المقاييس والتي نسجتها مع " خادمتها" عفوا مع ابنتها التي لم تلدها " الدريسية" حيث ترفض استاذتنا بشهامة وتربية الكبار أن ينادى على " الدريسية" ب " الخادمة" او " الخدامة ديالك" وكانت تخوض معارك يومية في قاع المجتمع و اعلاه في أفق تغيير المفاهيم و العقليات من البقال و حارس العمارة والجار وصولا الى افراد عائلتها. زهور العلوي كانت تسمي" الدريسية" " بنتي" ولم يسبق لها مطلقا أن نادتها باسمها الشخصي او بنعث ولفظ" الخادمة". السفر عبر أمواج وفكر وتجربة " زهور العلوي" ومسارها الفكري والنضالي واسهامتها في رقي هذا البلد ينسيك أن هذه المرأة تعاني وتقاوم مرض خبيث ومن فرط خبثه أسقط حتى شعرها واستباح جسدها وأقعدها الفراش لسنوات ورغم كل هذا " البلاء" كان موج الكبرياء عندها عاتيا وعذبا ، فقاومة الى آخر ثانية بصبر ممزوج بكبرياء،حار وحيّر الجميع. بلكنة فاسية ولغة عربية راقية: هذا فنجانك ؟ واليك آخر كتاب وهذا المقال؟ هل فعلا سي محمد برادة تمرد؟ وداعا أيها الوجه البشوش،المحتفظ بتقاسيم و تقاطيع وتفاصيل جمال لم تنل منه اهوال الايام ونكبات المسار وغدر الرفاق، ولا حتى غزوات المرض اللعين. قالت باسمة في عز محنتها: أنا لا أتألم من مرضي لأني هزمته وحولته الى ذليل مذل،ولا أبالي للموت لأنه " غدار"، كل همي وألمي منصب على " هذا الواقع الموبوء وما كنا نظنه سيكون هكذا رغم كل التضحيات، انها خسارة جيل بكامله". وداعا سيدتي