عرف المجال الجيوسياسي الريفي تعاقبا لموجات هجرة أبناءه إلى وجهات عديدة عبر محطات تاريخية متنوعة من حيث السياقات السياسية و الظرفيات الإقتصادية و الإجتماعية المفرزة عن تلك السياسات التهميشية و التجويعية بالأساس ، و الاكيد ان إختيار خيار الهجرة و إستبدال المجال الترابي هو إفراز موضوعي عن خلل سياسي بنيوي يفرز وضعا كارثيا لا يطاق العيش داخل دوائره ، و المعلوم أيضا ان الريف كان و لايزال بؤرة شائكة للنظام السياسي لعدة أسباب اهمها إنغراس فكر الخطابي في الذهنية الجماعية الريفية و بقائه كإرث سياسي وحيد يشعر الريفيين بإستقلاليتهم عن مراكز القرار التي تنظر إليهم كرعايا من الدرجة الثانية ينتمون كرها إلى خريطة الدولة المغربية و بالإكراه ، لذلك سعى النظام المخزني في الآن المعاصر إلى نهج تكتيكات هدفها خلخلة الوحدة المجتمعية الريفية و تشتيت أبناء الريف شرقا و غربا للقضاء على أية بوادر لعصيان سياسي ناتج عن المهانة الممنهجة ضد الريف و الريفيين .
1_ كرونولوجيا التهجير .

إبتدأت أولى المرامي المخزنية لتهجير الريفيين بعد وأد تجربة الرئيس الخطابي في وضع لبنات الدولة الريفية الحديثة بعد 1927 نتيجة العدوان الخماسي على الريف (المخزن_ فرنسا_ إسبانيا _ ألمانيا _ الولايات المتحدة ) و إمطاره بالغازات السامة و الكيماوية التي أفنت الآلاف الريفية في أبشع جريمة لحرب كيماوية على شعب اعزل في الربع الاول من القرن المنصرم ، و بعد إستسلام مولاي موحند لحفظ النوع الريفي و الحفاظ على بقاءه ، إرتاى المستعمر و معه النظام السياسي الموقع على معاهدة الجزيرة الخضراء إلى نهج سياسة الإستنزاف للإرادة الريفية عبر تشويه سمعة الريف و إمطارها بوابل التهم الجاهزة أساسها التخوين و العمالة للاجنبي ، كل ذلك من اجل فسح المجال لشرذمة الحركة اللاوطنية المتخرجة من المدارس الفرنسية و المطبقة لخطط المستعمر بكل حذافيرها ، و مباشرة بعد إستصدار ظهير 16 ماي 1930 و ما رافقه من تحوير و تزوير لبنوده ليسمى زورا و بهتانا بالظهير البربري الذي أعطى صفة قدحية للأمازيغ و يتهمهم بالردة ، و امام إرادة قوى المستعمر في الإرتقاء ببلاد المخزن التي أنجبت له المهللين على حساب بلاد السيبة التي أنجبت المقاومين الذين تصدوا للموت و الآلة الحربية للمستعمر بصدروهم العارية ، و في خضم توالي ثلاث سنوات للجفاف ، كل ذلك حتم على الريفيين التفكير بالرحيل و إستبدال الوجهة بحثا عن مكان لتحقيق بعضا من تطلعاتهم .
إلا ان النظام المخزني أنذاك سينزَع إلى إستغلال الوضع الإجتماعي و الإقتصادي الصعب للريف ليرمي بالريفيين في فوهة النار من جديد عبر إلحاق الكثير بلواء الريكولاريس 5 ليشاركوا في حرب الاهلية الإسبانية ليس قناعة منهم في القتال بل من أجل توفير الخبز و المعيشة لذويهم الذين فتكت بهم المجاعة ، كل هذا من اجل ربح نظام المخزن و فرنسا لوقت مستقطع لرسم معالم دولة المخزن التي ستتحكم فيها فرنسا عن بعد ، بعيدا نوعا ما عن لغة الرصاص التي آمن بها الريفيون للتحرر ، لتعقبها الموجة الثانية من الهجرة في المنتصف الاول من الأربعينات إلى الجزائر و في نفس المرحلة تم التخطيط لإستصدار وثيقة 11 يناير 1944 من طرف قراء اللطيف الذين أرادوا أن يتصفوا بالوطنية و هي منهم براء بدليل تكوينهم السياسي داخل أجهزة الإقامة العامة الفرنسية و إتصالهم المباشر بها ، لتبدأ بعد ذاك المرحلة الثانية من الموجة 2 بعد إختيار الريفيين للعبور إلى دول أوروبا و اهمها المانيا المنهزمة في الحرب العالمية الثانية ، إن تهجير الريفيون في الأربعينات أرادت منه القوى الكولونيالية فسح المجال لرسم خريطة طريق لمغرب ما بعد المغادرة الشكلية و تشتيت الريفيون لإضعاف شوكة إمتداد المقاومة المسلحة التي كان ينادي بها الرئيس الخطابي من المنفى .
في بداية الخمسينات و مع بزوع قوة جيش التحرير كإمتداد لفكر المقاومة ، إستشعر المتواطؤون اللاوطنيون بالخطر فمواصلة المقاومة يدل على افول ضمانهم لإمتيازاتهم السياسية و الإقتصادية و نسف لمخططهم الرامي للمساومة على الوطن مقابل الحصول على إمتياز عيني ( سياسي و مالي ) ، ذاك ما حتم عليهم في الترويج لأكذوبة الرفاهية التي يعيشها المهجرون ( قول علال الفاسي بالحرف في مهرجان خطابي بآزرو سنة 1953 " سعدات للي مشاو على برا شبعو فلوس و خبز ) ، ليتصاعد مؤشر الهجرة إلى كل من فرنسا و ألمانيا و في نفس الوقت تم الترويج لنفي محمد الخامس و إقحام زعماء الحركة اللاوطنية إلى الواجهة من أجل صنع أبطال وهميين لتهييئهم للتفاوض مع فرنسا فيما بعد ، في الوقت نفسه كانت تستخدم شخصية مولاي موحند كورقة سياسية يتنازع على إستغلالها الكل مع العلم ان مواقفه كانت واضحة من المستعمر و المتواطئين معه .
و بعد الإستقلال الشكلي و ما رافقه من بطش ميليشيات حزب الإستقلال برجالات جيش التحرير التي توجت بإغتيال عباس لمساعدي من قبل ، ظهرت حقيقة النظام الذي خلفه ليوطي الذي لا يختلف في شيء عن إسبانيا و فرنسا ، إذ تزايدت موجات التسلط على الريفيين في وضعية إقتصادية إتسمت بالإحتقان و تُوجت بجريمة الحرب التي قادتها ولي العهد الحسن و ذراعه أوفقير في إبادة الريفيين لإخماد إنتفاضة 58 _59 المجيدة لتظهر الموجة الثالثة من الهجرة إلى بقاع أوربا بعد شعار ( للي بغا يخوي الباسبور موجود و للي بغا يحكم عارفين كي نديرو معاه و هي الرواية التي رواها الفقيه البصري في مقال بجريدة الفرقان 1967 ) ، لتختتم كرونولوجيا التهجير بموجة ما بعد 1984 التي كانت مفارقة للموجات السابقة من حيث الشكل إذ إرتأى المهاجرون إلى إصطحاب أسرهم في حلقات هجرة جماعية بعد تيقنهم أن لا مكان لذويهم تحت نظام يصف مواطنوه بالاوباش في خطاب رسمي و قد أثرت سلبا اكثر هذه الموجة على تكتل المجتمع الريفي و وحدويته من خلال ظهور بوادر القطيعة مع الأصل الريفي في الذهنية النائشة التي ولدت بالخارج كالإستغناء عن اللغة الام و عدم الإلمام بالحيثيات التاريخية المرتبطة بالريف .
2_ الدلالات السياسية لسياسة التهجير .

من خلال العرض الكرونولوجي تتضح جليا التداعيات السياسية لتهجير الريفيين الذين نظرت إليهم الدولة المخزنية كعناصر تُقوض مشروعها السياسي المنبني على تنازلات إيكس ليبان لضمان الكرسي و الباقي لفرنسا ، من خلال إدراك المخزن ان الإرث التاريخي للريف و تراكمه في المقاومة الذي وصل للعالمية و بناء الجمهورية الإتحادية لقبائل الريف وفق اسس حديثة للدول الديمقراطية ، و الإشعاع العالمي لشخصية الرئيس الخطابي و كذا إنفضاح المخزن بعد ثبوت تخاله و بيع الوطن مقابل اهداف سياسية ، جعل من النظام يستشعر الضعف و يقوم بخطوات ضدا على إرادة شعب بأكمله من خلال نهج سياسة إخلاء الريف من أبناءه لتفكيك وحدوية المجتمع الريفي الذي كان من قبل شعبا و دولة ، في إرادة رسمية لإفصام الريف عن امسه و زرع حالة الإنفصامية في ذهنية ابناءه قصد إفراغهم من روح الإنتماء للريف كوطن لتقوية إستحضار البعد المغربي في ذهنيتهم قبل الإنتماء الأصلي للريف .
و الغرابة أن يتم التبجح بإمتيازات الريفيين في الدول المحتضنة لهم بتسخير الأبواق الإعلامية و تكتلات سياسية تجمع الاحزاب و مجالس عليا و وزارة صورية في تلميع صورة الدولة الرسمية في الوقت الذي يلزم الإقرار و تحمل المسؤولية التاريخية في حرمان ملايين المهجرين من وطنهم فتهجيرهم كان قسريا و لو يكن ابدا إختيارا بل كان إفرازا لنهج عدائي أساسه الحكرة و التفقير و التجويع و التنكيل أيضا بعد الحرمان من ابسط الحقوق المنصوصة عليها في المواثيق و البيانات الدولية لحقوق الإنسان و الحقوق السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية .
تهجير الريفيين أفرز هجانة في شخصية المُهَجَّرين بتذبذب إنتماءاتهم بين الدول المحتضنة و إنتمائهم الأصلي للريف و هذا الامر يعاني منه ضحايا سياسة التهجير في الموجة الثالثة بعد منتصف الثمانينات التي جعلت الكثير من الريفيين يولدون خارج وطنهم و يحرمون من لغتهم و ثقافتهم و إرثهم الشعبي الأصلي و الأصيل دون إغفال سياسات ممنهجة حرمت أبائهم من حقهم في التمدرس قبلا من اجل إعماء البصيرة و إضمار الإنتهاكات الممارسة و لا تزال في حق الريفيين الذين تريدهم الدولة كماكينات جالبة لعملة صعبة يتم بواسطتها إنماء مناطق أخرى لاريفية و لا يكون الريف فيها حاضرا إلا في مقاربات امنية تكميمية لأي صوت يطالب برفع الحيف و التسلط الممارس .
على سبيل الختم فإن التهجير القسري للريفين هو إفراز موضوعي لفشل النظام المخزني في كبح الإرادة الريفية لتكون هدفا و غاية لكل ريفي و يكون الريف محورا سياسيا لأبنائه هو الأجدر بالخدمة و الدعم و إعادة المجد له في خضم سياسات التمركز التي تجعل الجهات أذيالا لإنماء المركز على حساب تفقيرها ، و إن الإشكالية التعاملية مع الريف هي بنيوية بالأساس بدليل إستحضار العدائية و فكرة الغنيمة في كل شأن مركزي يتطرق للريف ، فالتفقير و التهميش لن يرفع بإستقبال المهجرين كل صيف ، كما ان الحيف لن يرفع بتدشين مركبات رياضية و بناء مساجد و الظلم لن تقطع اواصره بمقاربات قمعية لأي صوت سلمي يطالب بتحسين الظروف الإقتصادية و الإجتماعية ، كما أن الحديث عن التهجير يستلزم التطرق لمحاسبة المسؤول اولا قبل التفكير في الآليات التصحيحية للخطأ المكرس بقرار سياسي ، و إن أي حديث مركزي عن الريف في الظرفية الحالية هو محاولة لإبقاء الوضع عما هو عليه ، فالريف إما أن يكون مركزا للريفيين وفق نظام أوطونومي تكون الكلمة فيه للريفيين و إما ان يظل غنيمة سياسية تستحضر في اوقات الضيق المركزي و فترات الإنتخابات لإبقاءه جدار صد لأزمات المركز المالية و صمام امان يضمن للبنك المركزي سيولته من العملة الصعبة في واقع ريفي يسوده الإنعزال عن المشاركة في إستصدار القرار السياسي و نزوح متواصل للريفيين هروبا من القهر الممنهج و موت بطيء للريفيين بالسرطان الذي يفتك بهم و يكتفي المركز بإدانة المرض كأن البيانات الصفراء المكتوبة بالحبر ستؤدي وظيفة العلاج الكيماوي ، كل ذلك للتهرب من كون الدولة مسؤولة بشكل مباشر في الوضع الراهن بإعتبار أن الغازات الكيماوية ألقيت بموافقة دار المخزن .