فؤاد الوجاني
كتبتُ كلمة "الجمهورية" ثم أضفت عليها صفة "المغربية". حملقتُ طويلا في هذا التركيب الجديد. ولك أنْ تحدقَ فيهما أيها القارئ النبيه لترى القوة الكامنة في مزجهما، ولْتضع الملكية المغربية في نفس السطر لتفقهَ الوهَنَ المستتر وراء حروفها.
الحروف سر الخلق، وكل حلم يبدأ بكلمة، الحرية مثلا لا تكتسب معنىً دون لفظها أو كتابتها، بل لا يكون لها وجود مطلقا، ولا تتحقق، وكذلك الجمهورية.
قبل سنة ونيِّف من الشهور، كنت أشاهد بعضَهم يدعون إلى إسقاط النظام، قلت لنفسي: لِمَ كلُّ هذا الغيظ؟ لِمَ لا يمنحونه فرصة ووقتا؟ لعله يسلك مِنهاج الملكية البرلمانية، لعله يكتفي بقصر واحد ويبتعد، عن السياسة والسلط الثلاث كما نأى كثير من الحكام الحكماء، ولِتظل الملكية رمزا وشعارا، لعل بلادنا تصبح يوما كفنلندا أو السويد شكلا وليس روحا، ربما نفيق يوما فنجد وزراءنا يركبون الحافلات والقطارات كباقي خلق الله، وولاتنا وعمالنا يقودون الدراجات الهوائية لتنفيذ المسؤوليات الملقاة على عواتقهم من الشعب بدل الهرج والمرج والحرس الذين يرافقونهم أنما حلوا وارتحلوا، عسى الإصلاح يعم إداراتنا، وتختفي الرشوة والزبونية والمحسوبية وكل الشرور، فيخضع الغني والفقير والقوي والضعيف إلى قانون عادل، عسى قضاتنا يحكمون بين الناس دون اعتبار لجيوبهم ومناصبهم ونفوذهم، عسانا نخرج إلى الأسواق يوما فنجد الملك يمشي بين الناس دون عجرفة وتكبر وحاشية تفقدا لأحوال الناس وتواضعا للشعب كما فعل أصلحُ الخلق وأعلاهم شأنا عند الله من الصالحين والصحابة والحكام الفلاسفة والأنبياء. لعل بلادنا تصبح مِلكا لنا وليس للمَلك وأصدقائه وحاشيته والاستعماريين وثلة من الانتهازيين.
لا شيء من ذاك كان. الملك المتجبر المتكبر الحاكم بيد من حديد في قفاز مِخمليّ ما فتئ متشبثا بقيود الاستعباد، والقيود عديدة لا حصر لها، منها خروجه في مواكب زاهية حاملا للصولجان، ممتطيا صهوة الاستبداد، متعلقا بطقوس البيعة والولاء رغم الصياح والتنديد. من صاح "عاش الشعب" زَجت به أدوات الملك القمعية إلى السجون، ومن انتقد سلوك الملك المستبد وميزانيته على حساب الفقراء لفقوا له التهم ليقضي زهرة حياته وراء القضبان.
ومِن قيود الاستعباد تلقبه بأمير المؤمنين، وهو الذي لا يتقن حتى الصلاة، وهو الذي صافح المجرم بوش في أوج الحرب على العراق وأفغانستان مسلما إياه مفاتيح أرض المغرب ليبني بها سجونا سرية، يعذبون فيها رجالا ونساء مسلمين بتهم كاذبة وبأياد مغربية، ونِعم الإيمان.
ومن القيود كتابته لدستور على مقاس جلالته وقدسيته المطلقة، وفيه جاء أنه حامي حمى الملة والدين، والأحرى أن في عهده تحولت مراكش عاصمة المرابطين والموحدين والسعديين إلى عاصمة البغاء العالمي، حتى صارت تنافس غريماتها في شرق آسيا، ووجهة لكل شاذ منحرف.
وفي دستوره جاء أنه ضامن استقلال البلاد وحوزتها في دائرة حدودها الحقة، والأجدر أنه من باع بصمته سبتة ومليلية وجزيرة ليلى والجزر الخالدات في عز تقهقر النظام الاقتصادي الإسباني وضعفه، وهو من سوف يبيع الصحراء العزيزة تحت ذريعة الحكم الذاتي.
كان أحدهم يقول : رحم الله الحسن الثاني. ربما كان محقا، فالرجل على الرغم من جبروته وطغيانه كان ملما بالسياسة، متقنا لفن الخطابة، موليا شأنا ولو يسيرا للدين والعرض والحدود، لم تشغله عن الحكم تجارة، عالما بأن السعي وراء المال لا يليق بأخلاق الملوك، ويحط من قدرهم لدى الشعوب.
لكنَّ خلفَه السادس حول المغاربة إلى زبناء، والدولة إلى متجره الخاص، وسخّر لنفوذه الفساد والقضاء والبرلمان والشرطة والاستخبارات. وليتها شروط الملك وصفاته تتوفر فيه، وهو الذي نادرا ما ظهر أمام تلفاز إلا وفي يديه وُريقات مخطوطة بأقلام ديوانه، وهو الذي لم يتحدث إلى صحافة إلا مرة أو مرتين. ولم يتخذ موقفا حازما بشأن قضية وطنية تهم المغاربة في الداخل أو الخارج، ولا دولية تهم إخواننا في الشرق والعالم الإسلامي. إنه الملك الصامت، والصمت عن الحق والتغاضي عن الظلم ليس من شيم الملوك الأفاضل، وهو الأقرب إلى الملذات والنزهة منه إلى الجد وإدارة شؤون البلاد والحرص على أمن ورغد العباد وكرامتهم.
ومن قيود الاستعباد إقصاؤه للقوى الحرة بالبلاد أحيانا، وضربها ببعضها أحيانا، ليفسح المجال أمام أحزاب القصر لتدخل المعارك السياسية السطحية فتفوز بها، فجاء اعتذار وزيره بنكيران له ولمستشاريه الفاسدين مبكرا فاضحا ما غطاه القصر، ولم يكُ قد عمَّرَ طويلا في كرسيه الخالي من النفوذ. ثم صوَّت برلمان القصر على ميزانية الملك بعد تكميم أفواه المعطلين والمفقَّرين بالعصي والهراوات، ولسان حالهم يقول: لا حق لك أيها الشعب، الملك أولى بمليارات الخزينة منك، فصوتك لا يعلو فوق صوت الملك والهمة والماجيدي وأزولاي وآل الفاسي والجنرالات والمنتفعين والمفسدين وهلم جرا.
هؤلاء هم ممثلو الشعب، قد جاؤوا ليقولوا للشعب إن الملك خطر أحمر، وأن حرية الشعب الفطرية التي جبله الله عليها متجاوزة، وأن الشعب بكل جلالته ضيف في ضيعة الملك.
لقد جلا الحق جلاء الشمس إبّان الضحى، وبات الحديث عن الجمهورية أمرا مُلحا بعد أن بدت للمغاربة أجمعين كلفة الملكية الباهظة دون مردود، وأنها الحاضنة الفعلية للفساد، الحامية لسراق أرزاق الشعب وليست الحامية للدين ولا للحدود ولا للتراب الوطني ولا للكرامة المغربية.
أختم مقالتي ناظرا إلى صفة الجمهورية متسائلا: فيمَ نحتاج هكذا ملكا؟ مُذكرا أن الشعب الحر هو من يختار حاكميه، ولْيتفحص الملك وزبانيته وقواده )جمع قائد (صفحات مكيافيللي -التي أكل عليها الدهر وشرب- لأجل قمع الأحرار، وما هم بمفلحين. والسلام على كل من أيقن أنَّ الشعب هو الأوْلى بخير أرضه من غيره، والسلام على كل من آمن بكرامة الشعب المغربي وحريته.