هشام العمراني*
في نظام سياسي تلعب فيه المؤسسة الملكية بتقاليدها المخزنية وشرعيتها الدينية والتاريخية دورا محوريا، وفي محيط اجتماعي يقوم على المظاهر والتراثبية والاهتمام بالطقوس والاحتفالات والمواسم، وفي مناخ ديني قائم على احترام المقدس بكل تجلياته ورموزه، تلعب المراسيم السياسية للمناسبة الدينية أهمية كبرى في توجيه الرعية.
فلو استيقظ المغاربة صبيحة يوم العيد وأشعلوا القناة الرسمية ولم يجدوا النقل المباشر لصلاة العيد التي يؤديها ملك البلاد بصفته أمير للمؤمنين، ولم يتقدم الملك أمام كاميرات شاشة قنواته الإعلامية، ويباشر طقس ذبح الأضحيتين الأولى باسم ملك البلاد والثانية باسم الأمة المغربية، ولم تقم مراسيم الإستقبال وتقديم التهاني بالمناسبة، وبذل ذلك سيشاهد المغاربة نقل لصلاة العيد من أحد المساجد أو المصلى، مع خبر على شريط في أسفل الشاشة يقول ان الأسرة الملك احتفلت كبقية الأسر المغربية بالمناسبة و بعض الموسيقى التقليدية وبرامج علمية وثقافية وصحية... حول المناسبة.
ما الذي قد يتغير في علاقة الشعب مع الملكية ؟
إنا أية محاولة للإجابة عن هذا التساؤل لا يمكن أن تستقيم ما لم نبحث في الجذور التاريخية لبعض المراسيم السياسية التي لا زالت الملكية متشبثة بها، ومن بين أهم تلك المراسم نجد الاحتفالات التي تقام خلال الأعياد والمناسبات الدينة، فالمؤسسة الملكية كنظام قائم بذاته من بين ما تعتمد عليه في بقائها واستمراريتها تأويلها الخاص لمجموعة من المفاهيم، ومن أهمها فهمها للدين، والكيفية التي تخول بها لنفسها الحق في الحكم، انطلاقا من المقدس الديني، أي إقامة نظام تيوقراطي، وفي هذا الباب تكرس تطبيق مجموعة من المراسيم البروتوكولية لكيفية احتفاله بكل ما له علاقة بالمعتقد، ومثال على ذلك الكيفية التي يتم الإحتفال بها في مناسبة عيد الأضحى.
فالمراسيم السياسية خلال الأعياد الدينية بالمغرب عكست مختلف المراحل التاريخية التي عرفها تطور الدولة المغربية والمنعطفات السياسية الحاسمة التي مرت منها. ومن أهم المناسبات التي حظيت باهتمام السلاطين وحرصهم على الاحتفال بها وفق برتوكول خاص لما لها من دور في ترسيخ شرعية الحاكم.
حسب إبراهيم حركات في كتاب " المغرب عبر التاريخ"، كان القصر الملكي يحتفل بكامل الزينة والأبهة أثناء الأعياد الدينية: الأضحى ،الفطر والمولد النبوي. وقد جرت العادة أن يترأس السلطان كل الأعياد الدينية بوصفه أمير للمؤمنين وذلك وفق مراسيم خاصة ترسخت بتعاقب الأسر الحاكمة على حكم المغرب.
كانت احتفالات السلاطين بالمغرب بعيد الأضحى تتم عبر برتوكول سياسي محكم، ومراسيم خاصة سواء خلال خروج السلطان للصلاة بالمصلى أو عند ذبح الأضحية، أو خلال مراسيم تقديم الهدايا والتهاني من طرف وفود القبائل والجهات.
يصف لنا Aubin Engène (Le Maroc d’aujourd’hui) أن السلطان قبل خروجه للمصلى، يحيط خيالة المخزن وفرسانه حاملين الأعلام بجنبات المصلى الذي يصلي فيه السلطان.
وبانطلاق نفيخ المزامير والموسيقى يعلن خروج السلطان للصلاة مجتازا لساحة المشور في طريقه إلى المصلى، وكلما تقدم الموكب السلطاني ينتظم الجنود خلفه إلى ان يصل للمصلى لتأدية صلاة العيد .
ويضيف Aubin انه بعد سماع الخطبة وتأدية صلاة العيد، يقوم السلطان بوصفه إمام و أمير للمؤمنين بذبح اضحية العيد، التي ترافقها طقوس خاصة، وبهذا الصدد جرى الإعتقاد أنه كلما استطاع خدم السلطان أن يوصلوا الأضحيتين المذبوحتين لدار المخزن قبل أن يسلم الروح كان ذلك فألا حسنا بالنسبة للقصر، وعلامة على سنة خير بالنسبة للسلطان. وبمجرد الإنتهاء من مراسيم ذبح الأضحيتين تبدأ الموسيقى وتطلق المدافع قدائفها مؤذنة بالشروع في ذبح الأضاحي في كل أنحاء البلاد.
وبعد الإنتهاء من المراسيم الخاصة بالذبح، ينتقل السلطان وحاشيته لجزء أخر من مراسيم الإحتفال - في جو أقل أبهة من سابقتها - بتقبل التهاني والهدايا من القبائل الوافدة من مختلف مناطق المغرب، هذا الطقس يجرى وفق ترتيب بروتوكولي معين، حيث كان ممثلوا القبائل والحاشية يصطفون واقفون على أرجلهم بينما يمتطي السلطان لوحده جوادا مسبوقا بست خيول ومتبوعا بعربة يجرها حصان أبيض. اما الوزراء فيصطفون على يسار باب القصر. وعندما يظهر السلطان، ينحني الوزراء والمشاورية والجنود بينما يتقدم السلطان أمام ممثلي كل قبيلة بالتوالي، حيث تقوم كل هيئة بتقديم هداياها لتتبعها الهيئة الموالية وهي تردد عبارة البيعة.
وقدما لنا إبن زيدان في كتابه " العز والصولة" ترتيبا بروتوكوليا لهذه القبائل اتناء تقديم التهاني والهدايا على الشكل التالي :
* أهل فاس بأعلام مولاي إدريس. * الذكارة. * الخطيب. * الشرفاء الزراهنة. * أولاد الحاج. *شراكة. *اولاد جامع. *اولاد عيسى. * بنو سادن. *الحياينة. *أهل مراكش. (وهذا الترتيب البروتوكولي كان يختلف حسب طبيعة النظام والسلطة الحاكمة).
ويقدم ارنو وصفا دقيقا لأحد مراسيم تقبل التهاني من طرف السلطان إذ يقف فرسان كل قبيلة مصطفين وجامدين في انتظار قدوم السلطان (المولى عبد العزيز) الذي كان يركب جواد أبيض بسرج ذي خيوط بالأخضر، ويرتدي برنوسا واسعا أبيضا وفوقه جلابة وسلهاما على رأسه عمامة من الحرير. وكان يحيط به على اليمين صاحب المظل على حصانه وأمامه مجموعة من العبيد في أيديهم مروحيات لطرد الذباب، وآخرين من بينهم قائد المشور، وحاملي أسلحة السلطان،وخلفه كان هناك وزير الحربية محاطا بحرسه وقد بدا كل الموكب مرتديا الأبيض.
وكان السلطان يتوقف أمام ممثلي كل قبيلة وإقليم، بعدما يذكر قائد المشور أسماءهم، فيصيح هؤلاء بأعلى صوتهم بقولهم " الله يبارك فعمر سيدي " ليرد عليهم قائد المشور بقوله " الله يبارك فيكم ويصلحكم قالكم سيدي ". وهكذا تستمر المراسيم إلى ان ترفع الهدايا، فيرجع السلطان إلى دار المخزن بعدها يسمع دوي المدافع معلنا إنتهاء مراسيم الإحتفال بعيد الأضحى.

وبعدما تنتهي هذه المراسيم يرجع السلطان في موكبه وسط صفين من الجنود من المشاة والفرسان إلى أن يدخل دار المخزن.
أمام هذا الإحتفال الضخم والمهيب تتجسد سلطة الحاكم ورسائله الموجهة لكل أفراد الشعب بكونه الأكتر قربا من المقدس الديني والمسؤل عن حمايته والحفاظ على استمراره، كما يتضح لسلطان قوة عظمى قادر بها على قمع كل طامع في حكمه، كما يجسد السلطان بهذا الإحتفال البروتوكولي دور أب كل المغارب. وبقاء هذه الصورة في ذهن كل فرد من الشعب كفيلة باستمرار نظام الملكية القائم بالمغرب ألاف السنين أخر، بكل عيوبها ومعيقات تقدم وتطور الشعب المغربي التي تحملها.
وفي ظل هكذا وضع يصبح فصل ممارسة الحكم وتولي المسؤولية السياسية عن أي منطلق ديني، وتفكيك هذا الإرتباط غير الصحيح في علاقة الحاكم والشعب أحد مداخل النضال من اجل مجتمع يسع كل الشعب، ويقوم على تعاقد ديمقراطي تحترم فيه كل حقوق المواطنة الكاملة، مجتمع الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية.

*طالب باحت في التاريخ