زهور باقي
في 2003 لمح لي أبي بموضوع الحجاب في مرحلتي انتقالي من الإعدادي إلى الثانوي، فأضربت عن الطعام وثرت على التلميح… وكانت أول كلمة “لا” أنطق بها… لم يحدثني أبي بعدها في الموضوع إلى حدود اليوم فاكتشفت أن لي أبا سيقف في صفي إلى الأبد…
في 2006 تم قبولي في المعهد العالي للإعلام والاتصال، قبول معناه أن أخرج في سن 18 سنة عن أسرتي المحافظة من طنجة المحافظة لمدينة أخرى وحيدة بدون عائلة ولا معارف وأن أبدأ حياتي وأسيرها بعيدا عن أية رقابة…
في كل يوم يقترب موعد الرحيل كنت أتوقع محاضرات طويلة من أبي عن الأخلاق، وعن صون النفس تمهيدا لحياتي الجديدة، كنت أنتظر منه أن يضع جواسيسا في كل مكان يترقبون حركتي فطبعا أنا البنت الوحيدة التي ستخرج عن اسرتها ستعيش بعيدا وسط “قيل وقال ” العائلة الكبيرة…
حان وقت الرحيل، ودعني عند باب الحي الجامعي وكل ما قاله لي ” تهلاي في راسك ا بنتي”، لم يترك جواسيسا ولا مراقبين … ذهب بجملة واحدة…. جملة بقدر حياديتها بقدر ما تركت فيا الانطباع بأنه أروع أب في العالم…”ربى وعرف راسو شنو ربى”…ثقته بي أغنته عن كل محاضرات العالم…جملته كانت تطنن في رأسي في كل لحظة ضعف، في كل تيار يمر أمامي، في كل مهب ريح… جملته جعلتني صامدة أتذكرها فأبتسم وأزيد تشبتا في أن أجعله يفتخر بي…وتيقنت مرة أخرى أنه في صفي إلى الأبد…
في 2011 تقدم لخطبتي أحد أبناء الجيران رآني وهو في عطلته قادما من إسبانيا، كنت في الرباط وكلمتني أمي في الموضوع فقلت لها “لا طبعا” أجابتني بأنها تعرف موقفي مسبقا ولكن ” ما على الرسول إلا البلاغ” قبلها كان أبي قد عبر عن رأيه ” ابنتي لا زالت تتابع دراستها ولا زالت تحلم بمستقبل أفضل تصنعه بنفسها، هي ليست بحاجة لرجل في حياتها الان، رجل لا يعرفها ولا تعرفه” جوابه بين لي مرة أخرى أنه الأب الذي سيظل في صفي دائما إلى الأبد، يفهمني دون الحاجة لاستشارتي..
في 2013 كانت سنة التمرد وبدأت أكتب عن السياسة والدين والجنس، وأنتقد هذا وذاك، وأعبر عن ثورتي، وغضبي، ورفضي… كنت أصرخ ب”لا” في مقالاتي وكان هو يقرأها بصمت، لم يناقشني أبدا في اختياراتي ولا في اختياراتي لمواضيعي …هو دائما في صفي…
كان يساندني وفي نفس الوقت يتصدى بصمت لعبارات من هذا وذاك من اصحاب الحسنات” ابنتك تكتب عن هذا وذاك” ” احذر إن سمعتها في خطر”، “ابنتك متمردة أكثر من اللازم” … لكنه كان يدافع عني في الخفاء دون أن أعلم…. ويتحدى انتقادات المجتمع لسمعتي المقترنة بسمعته التي في خطر…. تعب أبي، تعب جدا، دافع عني وتشاجر مع الكثيرين بسببي وبسبب عبارة ” ابنتك تكتب كذا وكذا” …تعب أبي وانفجر في وجهي ” حسنا توقفي، سمعتك في خطر” ….
أصحاب الحسنات لا يعرفون أنني بعيدا عن أسرتي لأكثر من سبع سنوات كنت كل شيء أفعله من أجل أن يفتخر بي أبي…
أصحاب الحسنات لا يعرفون أن لي مبادئ أشرف من كلمة اسمها ” السمعة” مبادئ علمتني أن أقول لا في وجه مديرين وشخصيات عمومية وأعنياء وسياسيين كانوا مستعدين لكل شيء من أجل أن أرافقهم في ليلة حمراء… فكانت الإجابة دائما لا ثم لا ، ثم لا ،ثم لا… أصحاب الحسنات لا يعرفون أني لو قلت نعم مرة واحدة كنت سأطير إلى قنوات الخليج، سأزور دبي أو قطر منذ سنواتي الأولى بالمعهد…كنت سأكون مقدمة برنامج هنا أو هناك، كنت سأكون محررة ثابتة هنا أوهناك… لكن ذنبي أني أقول “لا” وفاء لمبادئي لا ” سمعتي”.
أصحاب الحسنات لا يعرفون أني كنت أسهر الليالي في سنوات دراستي كنت أدرس أكثر من تخصصين أدرس الصحافة في المعهد والسياسة في الكلية والفرنسية في الكلية الأخرى..وكنت كل مرة اشرف أبي بالأولى في دفعتي وفي أسوى الحالات ثانية أو ثالثة… أصحاب الحسنات لا يعرفون أنه كنت أقضي الليالي البيضاء استحضارا لوجه أبي ليفتخر بي وأطير في كل مرة لأقول له ” بابا جيت لولا” ، ” بابا خديت لا ليسانس وجيت أنا لولا وسط 11 ولد” في العلوم السياسة.. أصحاب الحسنات لا يعرفون أني كنت أحضر لعشرين أو ” ثلاثين” امتحانا في شهر واحد عندما تتزاحم المواد هنا وهناك وكل ما كان يزيد قوتي ” أن يفتخر بي أبي”.
أصحاب الحسنات لا يعرفون أنني أقول “لا” حرة متحررة… لا أحد يراقبني ولا أقول لا ” لأني أبي يراني من النافذة” وأخي ينتظرني على عتبة الباب …
أصحاب الحسنات حقيرون لا يعرفون شيئا عن حياتي، لا يعرفون أني كنت أعود في كل مرة باكية وأنا في أوج البحث عن سكن بعد الحي الجامعي لأني أجد تخرشات بكل مكان…أن مول الدار جرا علي في 12 ديال الليل لأني قلت له “لا” ، أني رسبت سنة كاملة في الكلية لأني قلت “لا” لعشاء مع أستاذ…. لم يرافقني أحد في محني، لم يدافع عني أحد وأنا أتعرض لاعتداءات من هذا وذاك.. باعتداء جسدي أو لفظي…أصحاب الحسنات “ماكانوش كيدخلو علي القفة” وأصحاب الحسنات مكانوش كي صرفو علي في محنة أخر الشهر “لأني أقول لا لنفسي” لا لأن تطلبي مزيدا من المال من “الأب” وأن أتحمل مسؤولتي لأني لا أجيد تسيير مصروفي… كنت أتحمل عواقب أخطائي، ومشاكلي، ورفضي المستمر لفرص كانت ستجعلني أميرة بدون ضمير، وغنية بدون “مبادئ” في لحظة عابرة لم يكن سيراني فيها أحد… لكن هنا “المبادئ أقوى من “السمعة”…
أصحاب الحسنات كل ما يجيدونه تتبعي في الفاسبوك والهرولة لأبي ” ابنتك تكتب كذا وكذا” … لا يعرفون أني عندما أكتب عن الجنس لا يعني أني منحلة، وعندما أكتب عن الإسلام لا يعني أني ملحدة ، وعندما أكتب عن السياسة لا يعني خائنة، وعندما أكتب عن الحرية لا يعني أني “بلا سمعة” نعمة سمعتكم زيدوها فراسكم “فمبادئي” أقوى…
قبل يومين كتبت صديقة في الفاسبوك أنها ستتوقف عن الكتابة لنفس الأسباب ” أصحاب الحسنات” أعطيتها دروسا في الصبر والاستماتة… ولم أكن أعرف أني سأتعرض لنفس الشيء وسأعاني من نفس الموقف وسيقول لي أبي مباشرة ” توقفي لقد تعبت” …
تعب أبي فمن حقه لأنه محاط بمجتمع بئيس لا يرحم… أبي الذي يراني أكمل سنة تلو الأخرى … والحل أن أتزوج وأرضخ للمجتمع ليقفل ملف السمعة ” فملف السمعة في مجتمعي يقفل ” ليلة الدخلة” ولا يفتح إلا بعد الطلاق.
أبي حدثتي يوما قائلا ” ليس العيب فيك يا ابنتي، العيب كل العيب في مجتمع يؤول كل تصرف ويقدحك، لكن عليك مسايرته فأنتي منه وهو منك” … أنا الان أقول لك أبي ” العيب كل العيب ليس فيك لأنك غاضبا جدا أمرتني توقفي لكن العيب في مجتمع يضغط عليك، وعليك مسايرته”…
إن توقفت عن الكتابة سأختنق، وإن لم أتوقف عن الكتابة سيختنق أبي…. فلأختنق أنا إذن…
في جميع الحالات كتاباتي لم تكن تغير شيئا وتوقفي لن يغير شيئا أيضا….لن أغير العالم ولو أمكنني لغيرته بكلمات هي أقوى ما أملك..
رُفعت الأقلام وجفت الدموع..
الشمس مشرقة، والعصافير تزقزق…