غريب حجم هذا الاحتفاء العربي الفايسبوكي بعيد الأم والذي فاق كل احتفاء آخر، كما لو كنا نحن العرب نحمل عقدة ذنب "غير معقولة" تجاه أمهاتنا ! في كل الأحوال، بما أنكم تتكلمون عن أمهاتكم سأدلو بدلوي وأتكلم بدوري عن أمي : أنا أيضاً أحبّ أمي، وحبي لها ليس مجرّد وسواس أوديبي أو هوس فطامي، بل لعل أمي تجدني كلما احتاجتني أو ابتغت طلباً. وللحقيقة فقد بدلت قصارى جهدي لكي لا يهجرها والدي، حاولت أن أجعلها لا تذبل بسرعة كما معظم أمهات مجتمعاتنا، حاولت إقناعها بأن تبقى مفعمة بالحيوية والحياة حتى لا ينظر أبي إلى غيرها ههههه، تكلمتُ معها في أدق التفاصيل خصوصية كما لو كنا أصدقاء. وكم كنت أحزن عندما أرى صور شبابها بالتنورة الجميلة وتسريحة الشعر المتحررة. كم كانت أمي فاتنة بالفعل ! وكم كنت محظوظا بأن أرضع من ثذي امرأة جميلة البشرة والقوام. كنت مدركا بأن عامل الزّمن في الشيخوخة هو أقل بكثير من عامل البشر. وكان أبي يغضب عندما يراها غارقة في فضائيات الدعاة السعوديين. والحق يقال، كان أبي قد دفع ثمن دعاة البؤس والعبوس عندما لم تعد أمي تستقبله بنفس القبلة الرطبة التي كانت. كم حرّضتُ أمي على المقاومة، مقاومة الزّمن، مقاومة اليأس، مقاومة ثقافة الموت والتي تزحف على أجساد نسائنا فلا تتركه إلا ذابلا لا يصلح لشيء آخر عدا قبلات الأبناء على الجبين كما لو كانوا يقبلون الحجر الأسود. كم شرحت لأمي ضرر شيوخ الموت، وكيف أنهم يقنعون المرأة بأن تستعد للرحيل مبكراً وفي المقابل يطمعون في زواج ثان أو ثالث أو رابع مع صبيات في عمر الزهور. غير أني فشلت في الأخير، فقد أصرّت أمي على "شيخوخة" لا مكان فيها لغير الصوم والصلاة وترتيل القرآن، قبل أن تفقد ملذات الحياة وتهجر أبي في المضاجع؛ فلربما تأتي ساعة الموت قبل الصباح فتذهب عند الله "طاهرة". وهكذا بدأت رحلة الكآبة والرؤى السوداوية.
كم أحبك يا أمي، كم اشفق عليك؛ لأني أدرك أنك خسرت المعركة ضدّ ثقافة كاسحة يرعبها جسد المرأة فتغتصبه منذ الطفولة وتعلن ذبوله مبكراً وتنعيه قبل الأوان، لكني ألومك فقط لأنك لم تقاومي طويلا. سأظل أحبك، وأدعو الله أن تعودي إلى الحياة قبل أن تدنو ساعتك. فليس عيبا أننا سنموت يوما، هذا قدر، لكن العيب كل العيب أن نسبق القدر، فنقرر الموت قبل أن نموت فعلاً.