راني عيادي
في نقاش صريح مع أحد الإخوة التونسيين، على هامش زيارة عمل قمت بها في إحدى المدن المهمشة و المفقرة من الجنوب الفرنسي، و ذلك عشرة سنوات قبل إندلاع ثورة الياسمين بهذا البلد الشقيق...قال لي بالحرف: "يا رفيقي العزيز حنا كاملين في المنطقة قصعة وحدة مسقية بمغرف واحد". نفس الكلام قيل لي بشكل آخر من طرف ممثلين عن الحركة الأمازيغية أيام الإحتجاجات في القبائل الأمازيغية بالجزائر حيث التقيتهم سريا في مقر جريدة بمدينة لبويرة و كنت أمثل آنذاك حزب الخضر الفرنسي في محاولة لمدهم بالمساعدة اللازمة و التعبير لهم عن تضامننا المشروط بعدم استعمال العنف.

في محاولة لتحليل الوضع بالمنطقة المغاربية، استحضرت هذه الكلمات مع إيماني المسبق بأن المجتمعات المقهورة في المنطقة محكومة بنفس المنطق الإستبدادي المهين و المنحط. إن أنتقد و أتحامل على التجربة الجزائرية الأخيرة فلأنني أحب شعب هذا البلد المضياف، هو شعبي أيضا فلا موقع للحدود الوهمية الإمبريالية في عقلي. ثم إن هناك علاقة تأثير و تأثر جيوسياسية مما يمكن أن يحدث عند الجيران الحلفاء الإستراتيجيون. أؤكد على أن انتقاداتي اللاذعة لهذه المهزلة ليست من باب أن ما عندنا في المغرب أحسن بل نحن في الفساد و الإستبداد سواء يا شعوب المنطقة و لربما عندنا الأمر أعقد.

تربيت سياسيا و تكونت ثوريا من خلال الثورة الجزائرية. أؤمن بأن المنطقة المغاربية مشروع تحالف إقليمي يستطيع قلب موازين جيوسياسية كثيرة و هذا يقلق أكثر من جهة خاصة المستفيدين من الفساد و الريع من قوى داخلية و خارجية. أدافع عن هذا التكتل الجغرافي و أعتبره أساس التنمية المسدامة في المنطقة مع إشعاع إقليمي و قاري كبير. إشعاع ديموقراطي و إقتصادي و ضامن للإستقرار و الأمن في المنطقة.

تأسس الإتحاد الأروپي أصلا للوقاية من الصراعات الدامية من قبيل الحروب التي أودت بالملايين في كل الحروب التي دارت رحاها في المنطقة الأروپية بين الجيران الأروپيين. الإتحاد الأروپي صمام أمان ضد كل محاولة عدائية و هذا إنجاز تاريخي يفتخر به إنسانيا. لنا نفس الحالة السياسية في المنطقة و حلها تكتل جغرافي تكون لكل دولة دورا تكامليا مع الدول الأخرى في مرحلة تأسيسية لوحدة سياسية و هنا المشكلة للقوى الإستبدادية الحاكمة. الوحدة السياسية تضرب في العمق الإستبداد و الفساد إن كان الميثاق المؤسس لهذه الوحدة الجيوسياسية يضع الديموقراطية و احترام الإنسان و حقوقه في ديباجته التي لا نقاش فيها. و الأنظمة اللاديموقراطية تهاب هذه الوحدة لأنها تخاف علي زوالها و انقضاء مدة صلاحيتها و إن كانت فعلا منتهية منذ زمن بعيد.

إنتقاداتي ضد النظام الجزائري و قبله ضد النظام المغربي والليبي و الموريطاني و الأمل الذي صنعته لنا التجربة التونسية هي من موقع أمل الشعب في المنطقة ديموقراطية تحتفل بإنسانيتها و بشعوبها التي تضمن لهم الإستقرار المستدام و تبعد كل شبح حرب مقيتة و صراعات لا تزيد المنطقة إلا تخلفا. الحدود وهم إمبريالي و الوطنية المقيتة عدوة التنمية المستدامة و عدوة الأمن أولى الحقوق الإنسانية و أساس كل الحريات.

لو استطعنا الإتفاق على هذه الأطروحة فسنتفق تماما على أن الشرط الجوهري لبناء هذه الوحدة السياسية الإقليمية هو دمقرطة المنطقة. دون ديموقراطية فكل الأحلام الوحدوية تبقى أحلام يقضة. التجربة الجزائرية فريدة من نوعها بحيث أنها بدأت في نهاية الثمانينات أولى إرهاصات الربيع الديموقراطي و كان ما كان من فشل أو بالأحرى إفشال هذه التجربة و كل التبريرات، من قبيل قطع الطريق على التجربة الجبهوية الإسلاموية، هي هراء في هراء. الإنقلاب العسكري ضد إرادة الشعب الجزائري في تلك اللحضة التاريخية بتواطؤ لا غبار عليه من طرف قوى الإستبداد العالمي كان خطأ تاريخيا حدد مستقبل الجزائر للعقدين التاليين و ما تزال ضلاله واقعة على الأحداث حتى اليوم.

في الجزائر، أسست جبهة التحرير الوطني، الحزب الوحيد لمدة طويلة بعد الإستقلال، لحالة سياسية مرضية فرضت فيه ما يمكن تسميته سياسيا، جمهورية الشعب و ملكية الدولة على وزن ما أسماه الإقتصادي المقتدر سمير أمين : إقتصاد مبني على قاعدة إشتراكية الشعوب و رأسمالية الدولة. ملكية الدولة الجزائرية لها هذه الخاصية العسكرية التي تجعل منها ملكية من نوع عسكري استبدادي حيث الجينيرالات الفاسدين المرتشين هم الحاكمون الحقيقيون يعيشون على خلق صراعات، مهما كانت مشروعة، لضمان إستمراريتهم. فخلق عدو خارجي من قبيل فرنسا المستعمرة و المغرب من خلال الصراع حول الصحراء الغربية استراتيجية لضمان الإستمرار في شعبوية تضمن لهم الإستمرارية. رأيت بأم عيني كيف يستفيد العسكر من امتيازات لا تقدر ببلد المليون شهيد، بلد المديونية الأقل في المنطقة، بلد الشعب الأبي المقاوم، بلد "علي موت واقف"...و رأيت بأم عيني في جبال القبائل و العاصمة و غيرها من المدن صور المهانة و الإستضعاف التي يعيشها الشعب خارج دائرة العسكر.

نحن قصعة واحدة و لنا إمكانية الخروج من الفوق من هذه الدوامة الإنحطاطية شرط الإنغماس الروحي و الوجداني في التفكير الوحدوي بين قوى الشعب المستضعف لإرغام الأنظمة لإصلاح ذاتها أو لنرفع شعار " إرحل" و سنرحلهم إن استطعنا بناء قوة سياسية مغاربية بمشروع تنموي وحدوي خارج دائرة الأنظمة. يكون هدفنا المرحلي بناء دول القانون و المؤسسات و الفعل الضيموقراطي للتأسيس لدينامية وحدوية تنموية للمنطقة تنفتح على إفريقيتها و تضمن التعددية. إنها الشرط الوحيد و الأوحد للخروج من هذه المهازل المتجددة. كان ما كان مما رأيناه من المهزلة المغربية في عمق الربيع الديموقراطي أو الحلم الديموقراطي و نتابع يوما بعد يوم سياسة التركيع التي ينهجها النظام المغربي الملكي الإستبدادي، و جاءت الإنتخابات الجزائرية التي كنا نعقد عليها آمالا كثيرة للإستفادة من الدرس الثوري الذي أسست له التجربة التونسية رغم كل اختلافاتنا الجورية من المشروع الإسلاموي.

إنني و من موقع المسؤولية و وعيا بشروط المرحلة الحاسمة التي تفرض علينا التجديد و الإبتكار، أنادي القوى الحية المنظمة سياسيا أو المثقفين الذين اختاروا التل لأنه أسلم و يفضلون الطعام عند الوالي لأنه أدسم و يصلون خلف الإمام لأنها صلاة أتم، أن نفكر في تأسيس قوة سياسية إقليمية تنظيميا و سياسيا للعمل على دمقرطة كلية للمنطقة. نجحت المقاومة الجزائرية ضد المستعمر لأن الشعب المغربي كان حاضرا في المقاومة حدورا فعليا بالأسلحة و الأفراد و نجحت المقاومات في المنطقة لأن التضامن بين الشعوب، أقول الشعوب و ليس الأنظمة، كان أقوى من النزعات الوطنية الضيقة المحدودة بحدود وهمية رسمتها بالرصاص القوة الإستعمارية و أذيالها ممن وافقوا و اختاروا أن يكونوا وكلاء للإمبريالية و للإستعمار من المخزن المغربي و الجينيرالات الجزائرية و الحكام الإنقلابيين بكل من تونس و ليبيا و موريطانيا...

أتخيل دينامية شعبية منبعها إرادة العيش المشترك في المنطقة في أمان حافض للتنمية المستدامة و لحقوق الناس استحضارا لمسؤوليتنا الجماعية كمثقفين و كفاعلين سياسيين. فرض الوحدة الديموقراطية في المنطقة من القاعدة أكثر وقعا من انتظار أنظمة لا هم لها غير البقاء في الحكم و الإلتصاق بالكرسي و لو كان متحركا. ألسنا على ذلك قادرين؟ بلا. إن لنا من القوة و الوعي ما يكفي لبناء مشروع وحدوي واقعي يبتعد عن الشعبوية و الإنحطاط الفكري، مشروع يكون أساسه المؤسس إرساء دعائم ديموقراطية حقيقية و للمثقفين و كل الفاعلين السياسيين مسؤولية تاريخية. لنخرج من الحدود، لنكسرها في عقولنا، لنضمن لشعوبنا شروط الخروج من أزمة تخنقهم من كل صوب و حدب، لنضمن للاجيال القادمة شروط الكرامة الإنساية. إننا جيل الهزائم، فلنحول هزائمنا الحالية لانتصارات مستمرة على الظلم و الفقر أكبر الظالمين و الإهانة وجه من أوجه هذا الفقر.

عمليا، نحن كثرة في بلاد المهجر أسسنا سوسيولوجيا لعلاقات مغاربية غنية جدا، فلا انتماء حدودي في عقولنا لأننا أصلا ضحايا الفقر و التعميش في بلداننا الأصل. براغماتيا، عندنا إمكانية الإجتماع و الإلتقاء في أي موقع كنا فيه في كل ربوع العالم الحر المنفتح المفتوح الحدود. لنستحضر دورنا الريادي في تنظيم المقاومة. لنكن في موقع المسؤولية، لنفكر، لنجتمع لنؤسس لفعل وحدوي بعيدا عن الانتماء السياسي الضيق أو الحدودي الشوڤيني.

ليس لي وزن أكبر من وزن كلماتي فهل ستصل لكم كلماتي الصادقة؟