صغيرتي؛
أكتب إليك وأوراق أيلول تملأ أزقة المدن الحزينة. هذا الشهر يطرق بابي برفق ليذكرني بيوم ميلادي.. يوم أطلقت صرختي الأولى ولم أكف، قبل أن أتعلم أن أقوى تعبير عن الغضب يكون أحيانا بالصمت.
أيلول الذي جئت فيه ذات مساء مكفنة في قماط اللعنة والخطيئة. تلك الخرقة الرثة التي لفوا فيه جسدي الصغير ثم سطروا ما يجوز وما لا يجوز لي.
كبرت وكسرت ألواحهم وتعاليمهم، تعلمت أن أثور... أن أكون أنا... الأنثى... اﻹنسان. أبكي وأفرح. أضحك من أعماقي. أعلن الحب بلا هوادة حين يرابط على بابي. أملأ الدنيا ضجيجا بهدوئي وصخبي.
أكتب ﻷترك لك وصيتي. أنت التي ستولدين بعد خمسين عاما ونيف من رحيلي عن هذا العالم. أتوقع أن تملئي الدنيا ضجيجا وفرحا كما فعلت أمك قبل نصف قرن... سترثين أيضا هذا المزج بين العقل والجنون.
صغيرتي؛
ستجدين الطريق مسيجة بأساطير اﻷولين. سيخبرونك بأن صوتك عورة، وبأن الحب خطيئة تقود إلى النار. سيقولون لك بأن الأنثى الحقيقية هي المراوغة واللعوب... اﻷنثى صديقة الشيطان. وأن الفاضلة هي تلك التي تشبه راهبات الدير اللواتي أنذرن أنفسهن لخدمة الرب. لا تكوني لا هذه ولا تلك. كوني الأنثى التي تريدين أنت أن تكوني.
اعلمي يا صغيرتي أن ما يبدو بنيانا ضخما من التعاليم والمحرمات ليس سوى تمثلا في اﻷذهان. فأنت حرة في أعماقك ولا شيء يمنعك من التمرد على الخرافة المستكينة. تعلمي الثورة بهدوء فهي الأقوى واﻷبلغ من الصراخ...ستجدين نفسك خارج القطيع تمشين في غير الاتجاه. سيقذفونك بالحجارة، سينعثونك بالجنون... لا تأبهي، هناك العشرات من المجانين بالحقيقة مثلك تركوا القطيع من قبل، وسيأتي من سيتركه بعدك. هؤلاء المجانين هم الذين يصنعون مستقبلا جميلا.
حبيبتي؛
أكثر ما أريد أن أوصيك به هو بناء قوتك وسلامك الداخلي. فمنبع سعادتك الحقيقية هي تلك التي تمنحيها لنفسك. أحبي نفسك واهديها ورودا كلما رغبت في الحب والورد. راقصي نفسك، داعبيها ودلليها، فذلك لا تعوضه سعادة رهينة بوجود آخرين في حياتنا، قد يظلون وقد يرحلون. فالسعادة التي يمنحوننا إياها مشروطة بوجودهم.
صغيرتي؛
إن أحببت أعلني الحب بلا هوادة، لا تخجلي من نفسك مادام اﻵخر يبادلك الحب. أوصيك ألا تلاحقي التعب والسراب، فتلك لعمري بداية فقدانك لذاتك ولسلامك الداخلي. الحب يا صغيرتي لا يعمر وسط العواصف والفوضى والمد والجزر الذي لا ينتهي. لا احتمال للحب السليم إلا وسط الهدوء والاتزان والسلام والرغبة المتبادلة في تجاوز مطبات الحياة.
اعلمي أن بناء الإنسان أصعب من بناء سفينة. وإن رغبت في الإتيان بصغار إلى هذا العالم، إياك أن تصرخي في وجوههم أو تمتد يدك لتصفعهم يوما. فاﻷحقاد والعنف والقهر الذين يعمون هذا العالم خلفهم جراح طفولة أمراء الحروب العطشى للمال والدم... جراحهم التي لم تندمل أبدا هي موطن ضعفهم وسايكوباتيتهم.
العالم يا صغيرتي يحتاج إلى الكثير من الحب والصفاء الذهني والوئام . يحتاج إلى السلام الداخلي حتى يتصالح الناس مع بعضهم البعض وتخف وطأة الظلم والحروب الصغيرة والكبيرة.
فتيحة.أ
أمك التي سترافق أحلامك حيثما حللت
صباح ذات أيلول من ذات عام