أثناء التكوين الذي خضعنا له من أجل المشاركة في الاحصاء العام للسكان والسكنى تم إخبارنا أن هناك لجنة خاصة ستقوم بإحصاء الأشخاص بدون مأوى لكن البارحة صباحا تم اخبارنا بأننا نحن من سيتكفل بالقيام بهته المهمة الصعبة تحت حماية المصالح الولائية والقوات المساعدة، الأمر أغضب الكثير من الزملاء لكنني كنت فرحاً جدا بالأمر لأنني دخلت مغمار هته التجربة في جزء كبير من أجل التقرب من المواطنين ومحاولة فهم واقع المجتمع المغربي وفهم تغيراته.

مساءاً تم الاعلان عن لائحة من تم سحبهم في القرعة من أجل المشاركة في احصاء ما يسمونه في الاحصاء "الأشخاص بدون مأوى" ويستخسرون فيهم حتى كلمة مواطنين رغم أنهم أكثر من يستحقها لأن الوطن أخذ منهم الكثير لكنه أدار لهم ظهره. للأسف لم يكن أسمي بينهم فحاولت تعويض أحد الزملاء الذي لم يكن يرغب في الاقتراب من من يسميهم "الشمكارة والجانكيات" لكنهم أخبروني أن الأمر غير ممكن... ومع إلحاحي على المشرفة مشكورة قبلت طلبي بالمشاركة كمتطوع في العملية.
انطلقت قافلة السيارات من المركز في اتجاه الدائرة الأمنية تتقدمها سيارة تابعة للولاية بها قائد ورجلين من القوات المساعدة لتنطلق من هناك كل مجموعة نحو وجهة... ونحن في الطريق في سيارة خاصة لزميل شاهدنا امرأة متشردة قرب "موسى ابن نصير" فأوقفنا السيارة ونزلت لأستجوبها ثم مررنا للثانية فالثالث والرابع بينما سبقتنا قافلة السيارات نحو الدائرة الأمنية فبدأت الاتصالات مكثفة تطالبنا بالالتحاق بالقافلة نظرا لخطورة العمل بدون حماية لكننا لم نأبه للتحذيرات وكنا مصرين على احصاء كل من قابلناهم هناك.

لن أنسى ابدا السيدة التي تزوجت ثلاث مرات وكل مرة كان يتخلى عنها أزواجها لأنها لا تستطيع الانجاب، لن أنسى العجوز التي أجرت معي الاستجواب بأربعة لغات (عربية فرنسية اسبانية وانجليزية) بطلاقة كبيرة وأخبرتني أنها كانت تعمل مرشدة سياحية لكن المرض منعها من الاستمرار وفي غياب معيل او اولاد او ضمان اجتماعي كان الشارع مصيرها، لن أنسى ابدا الشيخ الذي تخلى عنه أبناءه لمجرد أنه مصاب بتبول لا ارادي...

من الدائرة انطلقنا مباشرة نحو المحطة الطرقية... كان الطريق مباشر بدون توقف... نعم وزارة الداخلية تعرف جيدا أين تعيش تلك الشريحة من المجتمع وأين تكون... كان أغلب من وجدناهم هناك من رجال ونساء من من يعملون أعمالا بسيطة نهارا تدر عليهم دريهمات قليلة من بحث في حاويات الأزبال والمتلاشيات ثم يعودون الى المحطة الطرقية ليقضوا بها ليلتهم. لم يكونوا كما تم وصفهم لنا خطيرين ولا مسلحين ولم نلقى معهم أي مشكلة باستثناء حالة واحد كان لشاب في العشرينيات من عمره كان تحت تأثير مخدر قوي كان يصرخ ويلعن هذا الوطن ويطلب منا التدخل لا الاكتفاء بالأوراق التي لا تقدم لهم شيئ.

بعد ذلك تحركنا نحو بناية مهجورة في قلب المدينة على شارع محمد الخامس تسمى "كافراد" وهي بناية حسب ما قيل لي كانت مخصصة للاتحاد الافريقي وبعد انسحاب المغرب من الاتحاد الافريقي بقيت مهجورة في ملكية ادارة "الأملاك المخزنية" وسط تنازع الكثير من المصالح لحيازتها فبقيت هكذا مهجورة وأصبحت بؤرة تجمع عددا كبيرا جدا من المتشردين أغلبهم أطفال في مقتبل العمر. في الأول كانوا خائفين وحاولوا الاختباء لكن بمجرد ان تحدثنا اليهم قليلا وبدؤوا يطمئنون لنا بدأت جحافل تخرج من البناية... كانو مرحين وطيبين وبعضهم لهم مواهب تستحق التشجيع، أحدهم كان يقوم بحركات رياضية لا نرى مثلها الا في السيرك ومسابقات الجمباز يحلم ان يصبح عامل بالسيرك. طفل آخر كان له صوت جميل وكان ينشد أغاني جميلة تحكي معاناتهم مع التشرد والادمان، طفل آخر كان يعرج ظننته في الأول مصابا باعاقة لكنه أراني ساقه التي كانت بها اصابة بليغة قال لي ان سيارة صدمته لكنه لم يذهب الى المستشفى لأنه لا يحمل اي وثائق اخبرته انه لا يحتاج لوثائق وانني يمكنني مساعدته لكنه رفض لسبب لا أعرفه، طفل آخر كان يلبس ملابس نظيفة ويظهر عليه انه "ابن عائلة" قال لي انه هرب من البيت منذ يومين فقط سألته لمذا هربت فقال في الأول ان اهله لا يحبونه قلت له انه ربما فقط يتهيأ له ذلك فأخبرني صديقه أن امه أتت تريد ارجاعه الى البيت لكنه رفض فنهره قائلا "راك عارف راجل مي شنو كان كايعملي..." سألته هل كان يضربك فصدمني عندما قال لي انه كلما خرجت أمه كان زوج أمه يستفرد به لينال من طفولته ويمارس عليه رغبات البيدوفيلية الشاذة، لن أنسى الشاب الذي نزلت الدموع من عينيه وهو مبتسم فلما سألته لمذا يبكي فقال لي أنني أول شخص في حياته يناديه "سيدي"، لن انسى السيدة الفرنسية التي أتت بكلابها الثلاثة اليهم تتحدث معهم وتتركم يلعبون مع كلابها الكرة تعانقهم وتسلم عليهم، تتركهم يعانقون الكلاب دون أن تنظر لهم نظرة دونية فأخبرني الأطفال انها تأتي كل ليلة اليهم مع كلابها لتلعب معهم ينادونها بأسمها ويعرفون أسماء كلابها... لا أحد منهم اختار ان يكون هناك ولا أن يعيش على هذه الحالة...

اختلطت علي الأحاسيس... بكيت مرتين... لكنني رأيت ان بكائي لا ينفعهم بل يزيد من تأزيم حالتهم فقررت ان أكبت دموعي وأضحك لأضحكهم... كنت بين كل سؤال وسؤال اطلق دعابة او سؤالا طريفا لا علاقة له بالاحصاء وأفرح كثيرا عندما أرى ابتسامة جميلة تعلوا وجوههم المنهكة.

ليس كل متشرد هو بالضرورة مدمن فبعضهم لا يدخن حتى السجائر
ليس كل متشرد هو بالضرورة أمي فبعضهم قضى سنوات في الفصول الدراسية بل ويتحدثون لغات أجنبية
ليس كل متشرد هو بالضرورةشخص غير نافع فكثير منهم لديهم حِرف ومهن يتقنونها
ليس كل متشرد هو بالضرورة معطل فبعضهم يعمل لكن عمله لم يسمح بضمان دخل يضمن له الكرامة الانسانية
ليس كل متشرد هو بالضرورة انسان خطير فمن قابلتهم البارحة كلهم كانوا مسالمين وطيبين .