".. من أجمل الأشياء التي تمنحها لك مستنقعات الشّرق اللعين، القدرة على التّحدي وتجديد طاقاتنا الوجوديّة، فكلّ ألم جديد تراكمه في هذه البلاد التي تقتل وتحارب كلّ ما يمتّ للإنسان والإنسانيّة بصلة يصير درسا جديدا في المقاومة والصمود الذاتيّين..
..أكيد صعبة هيّ وشاقّة عمليّة المحافظة على توازناتك الداخليّة، ومؤلم هوّ السّير على درب الممانعة، على خطى "سيزيف"، ولكنّه أفضل من الدّخول في حالة موت اكلينيكي، كلّنا نعترف بجوانب الضّعف والاستسلام فينا ولكن قليلون هم أولئك الذين يدركون عظمة قوة الإنسان على الصمود والتحدّي..
..قد يصاب الجسد بالوهن والضعف وقد يعتصره الألم، قد يسقط مرّات متتاليّة في الحفر والمستنقعات والأسر، أو قد يسبح في بركة من الدّماء لا نهاية لها، كما قد يخذلك في اللّحظات غير المتوقّعة وفي الأوقات غير المناسبة، كما قد يصير قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في وجه العالم في أي زمان ومكان..كما قد يصير شبحا متنقّلا بين عالمي الأحياء والأموات، أو سنونوا مهاجرا بين الوطن والمنفى..وكلّها احتمالات قابلة للتّحقّق، أي ممكنة التّحوّل إلى واقع مادي ملموس..
..لكنّ الأصعب واللاّ مطاق هوّ أن يشعر الإنسان بالهزيمة الداخليّة، بانهيّار الحُلم الجميل، بانقطاع ذاك الخيط الرّفيع النّاظم بين الواقع والحُلم، بين الحقيقي والخيالي، بمعنى آخر بين ما هوّ كائن وبين ما يجب أن يكون..
..ومن أسباب السّقوط في مستنقعات الهزيمة الدّاخليّة إهمال الحُلم، عدم تشذيبه وفق متغيّرات الظّروف الشّائكة الملازمة لتطوّر وتقدّم الحُلم، فالحُلم مهما كبُر وتقدّم عبر الزّمن يبقى طفلا رضيعا يحتاج إلى مضاعفة وتطوير أساليب الاعتناء به، وتحصينه أمام كلّ الأخطار الخارجية والداخلية المحيطة والمتربّصة به في كلّ زمان ومكان..
..سيبقى الحُلم الجميل كبدويّ مسافر عبر الصّحاري القاحلة، تهدّدُ أمنه وسلامته الرّمال المتحرّكة ولصوص الظّلام وقطّاع الطرق، كما قد تهدّده الأوهام التي يولّدها السراب الناتج عن ضربات الشّموس الصحراوية الموجعة..
..لا شيء آخر لنا ها هُنا في مستنقات الشّرق غير أحلامنا، فإن تخلّينا عنها أو فقدناها ضاع منّا آخر خيط أمل يربطنا بالإنسان والإنسانيّة..
..في عقود زمنيّة قليلة نزفت إنسانيّتنا الكثير من دمائها، وفقدت العديد من عناصر مناعتها، كما راكمت من الهزائم ما اعتبره البعض من معسكر قاعنا الاجتماعي مبرّرا كافيّا ومقنعا للارتماء في مستنقع المعسكر النّقيض..
..مهما كانت الظّروف المحيطة بحُلمنا في غدٍ مُشرق صعبة وشاقّة، سيبقى لحُلمنا أمل في التحقّق والانعتاق من أسر هذا الحاضر العبثيّ..
..سيبقى لحُلمنا بقيّة...".
بقلم: ابراهيم الكلعي