أن يكون تعليم مجتمع ما في ورطة ، فمعناه ببساط أن الورطة مجتمعية عامة وشاملة .
في المغرب التعليم تجاوز الورطة إلى شيء أدهى وأمر لا يمكن إلا تسميته بالثقب الأسود .
لا شيء يسر في التعليم المغربي ، أو لنقل أن ما يسر هو أنه هناك حفنة من نساء ورجال التربية والتعليم لا يزالون قابضين على الجمر . قابضون على الجمر تعبير قليل في حقهم ، فالقابض على الجمر في أقصى الحالات سيضر يده ، بينما رجال المقاومة الذين لا يزالون يعملون بصدق ونزاهة في التعليم المغربي لا يخاطرون بكف من كفيهم فحسب ، بل بصحتهم النفسية والجسدية ولا يمكن مقارنتهم إلا بأبطال الدولة اليابانية الذين قرروا البقاء في المفاعلات النووية المشعة المضروبة زلزالا ، من أجل إعادتها إلى مستويات السلامة ، وهم أول المدركين أن قرارهم بالبقاء إنما هو شبه انتحار من أجل الآخرين ، من أجل المجتمع ، ومن أجل القادم من الأجيال .
بعد هذه التحية للأستاذات والأساتذة المغاربة الصادقين القلائل ، لنحلل قليلا ورطتنا التعليمية .
هناك قاعدة عامة تقول ، أنه إذا رأيت سلوكا مقيتا شاع في عشرات أو مئات الآلاف من الناس فاعلم أنه لا يمكن أن يكون كل هذا الخَلق مخطئون . هذا ببساطة غير منطقي . ما هو منطقي هو أن عوامل كثيرة تكتلت وتحالفت واجتمعت لتجعل السلوك المقيت ينتعش .
طبق هذه القاعدة على ما شئت من القطاعات وليس فقط على التعليم . حين يصير الكل تقريبا مرتشيا في قطاع كقطاع الأمن ، وحين يصير الكل تقريبا متهاونا في قطاع كقطاع التعليم ، وعندما يصير الكل تقريبا مرتشيا ومتهاونا ومتحجر القلب في قطاع كقطاع الصحة . أرجوك لا تلم نساء ورجال الأمن والتعليم والصحة إلا بمقدار ، بنسبية ، وجزئيا .
رمي اللوم في تفشي الفواحش الكثيرة على الموظفين الصغار هو جبن ليس إلا ، تنمر ، وظلم . هل هذا يعني أننا نساء ورجال التعليم معفيون من المسؤولية . لا ، وألف لا ، ومليار لا أيضا . نحن مسؤولون عن نجاح أو فشل المنظومة التربوية على الأقل بنسبة أربعين بالمائة .
- أين تكمن مسؤوليتنا ؟ - أين أخطأنا ؟ - وأين كنا أغبياء ؟
عندما وجدنا التعليم حديقة من دون سياج لم نتوانى عن دوس الأزهار . وعندما وجدنا أمامنا أطفالا بدوا ، بأسر بعادات قديمة لم نتوانى عن فرض ضريبة البيض والخبز والزيت . وعندما وجدنا أن لا رقابة هناك حقا على أدائنا لم نتوانى أبدا في القيام بشكليات التعليم ، مذكرة يومية ، وجذاذات ، وتوازيع ، وخطط دعم لا نقوم به أبدا . لم تكن لدينا شجاعة الغوص في جوهر فعل التعليم فالغوص ناحية الجوهر متعب وشاق ، واكتفينا بجملتنا المشهورة :
- واش فهمتو ؟
واكتفينا بالرد الشهير :
- نعم أستاذ فهمنا .
طبعا ، مسؤوليتنا كبيرة وعظيمة وإذا أنزلتها على جبل لخر ساجد من عِظَم وهوْل ما اقترفته أيادينا الآثمة .
ألديك أستاذتي الكريمة ، أستاذي الكريم شك أننا نتحمل جزء كبيرا من الانحطاط الفكري الذي ساد المجتمع كله وليس فقط قطاعنا المترهل .
ألا تزال تعتقد نفسك قديسا وقديسة لأن نقابيا غبيا يقول لك أنك لا تتحمل المسؤولية بل يتحملها المسؤولون الكبار وأنهم يجدونك حائطا قصيرا فيحاولون تخطيك ، وأنه هناك كي يحفظ كرامتك ، وما إلى ذلك من كلام منمق معاد مكرر يدغدغ مشاعرك ويخدرها .
أستاذي العزيز هل لا تزل تصدق البيت الشعري البليد ، أنك كدت أن تكون رسولا وبالتالي أنت تكاد أن تكون مقدسا .
إن كنت لا تزال تصدق النقابيين الانتهازيين ، ولا زلت تصدق أبيات الشعر المترهلة المتهالكة القديمة ، تفضل أدلة أخرى على أننا مذنبون .
ليتنا فقط استغللنا جهل أسر التلاميذ بدعوة أن العامل والقائد والمقدم يفعل ، وليتنا فقط استغللنا انعدام الرقابة أو انحسارها في الجانب النظري التوثيقي الذي لا يسمن ولا يغني من مجاعة فكرية ، ها نحن قد وصلناها . وليتنا فقط استغللنا كوننا نعرف أن نسبة مهمة من المفتشين ليسوا سوى مرتشين ، ودسسنا في أياديهم الأوراق المالية ليتحفونا بتقارير تمجدنا ، كما تمجد الإذاعة منجزات الوهم .
ليتنا استغللنا هذا فقط ..
بل تمادى بعضنا إلى ما هو أبشع . فأمرنا تلامذتنا بأعمال السخرة وكأننا في العصر الوسيط . آخرون بكل صلافة استغلوا السكنيات والأقسام للتحرش الجنسي بأطفال في عهدتهم .
فرَّغ كثيرون أزماتهم النفسية وتشنج أعصابهم وتوترهم مع أزواجهن وزوجاتهم ، صراخا وعنفا وتحقيرا لأطفال صغار لن أقول لك هم أمانة ، ولن أقول لك هم أبناؤنا ، ولن أقول لك هم أبرياء ، - مصطلحات قديمة مستنفذة - ، بل سأقول لك هم نحن ، هم ابنك وابنتك اللذان من صلبك ، هم منزلك الذي سينهدم قريبا على رأسك ، إن لم نبادر بالتوقف عن رياضة تقديس الذات ورمي المسؤولية على الآخر .
للآخر مسؤولية أكيد ، ومسؤولية هي أيضا إن نزلت على أرض لصيرتها كالعهن المنفوش .
هل نحن هنا بصدد جلد نساء ورجال التعليم . لا ، وألف لا ، ومليار لا . فأغلب نساء ورجال التعليم أصبحوا فكريا أقرب إلى الجثث . والله ثم والله ، لن ينفع معهم لا جلد ، ولا تخويف ، ولا حملات تحسيسية ولا زيادة في الأجور .
لكان الأمر سهلا ، لو كان كل ما نحتاجه جلد ، وتخويف ، وحملات ، وبعض الدراهم . نساء ورجال تعليمنا بحاجة لمن ينفخ الروح فيهم ، كما نفخ الروح القدس الحياة في مريم العذراء .
أول الطريق أيها الأساتذة ، أيها المديرون ، أيها المفتشون الكرام أن ننزع القداسة عن أنفسنا بأنفسنا ، وأن نضع أنفسنا موضع تساؤل في الجوهر لا في الشكليات .
أول الطريق أحبتي أن نتبرأ من أمثال المستهزئ بتلميذته حتى وإن كنا نعرف أن الظروف والملابسات والمحيط قاس علينا نحن أولا . لأنه إن بررنا مثل هذا فليس هناك ما لن نستطيع تبريره ، حتى القتل ، والسرقة والاغتصاب يمكن تبريرها بنفس المنطق .
أول الطريق أن نراقب ذواتنا بذواتنا ، لأنه علينا أن نكون قد وصلنا مرحلة من الوعي تسمح لنا بمعرفة أننا إن لم نراقب أنفسنا ، فليس هناك من سيراقبنا فعلا . فالذين يأتون إلى أقسامنا إنما يمثلون المراقبة ، بينما هم واحد من أربع :
- مسؤول قابض على الجمر ، وهم قلة قليلة ، فقط المحظوظون من يلتقونهم ، وكن متأكدا أنه لن يحملك إلا جزء من المسؤولية ، وسيسمعك جملة أو جملتين عميقتين الأغلب أنك لن تفهمهما إلا بعد مرور سنوات .
- وإما باحث عن (تدويرة) وما أكثرهم .
- وإما باحث عن مجد شخصي متنطع بالمعارف والنظريات وما حفظ عن ظهر قلب .
- ورابعهم مسؤول بعقد نفسية ، متخاصم مع زوجته هو الآخر ، أو له ألف مشكل جاء ليفرغ كل ذلك فيك ، كما تفرغه أنت في تلامذتك .
.. إذن ، لا رقابة في تعليمنا ، إلا ذاتك ، إلا نفسك ، إلا أنت أيها الأستاذ الذي شارف على الموت الفكري والعاطفي والروحي .
لنتذكر القاعدة الأولى والتي يسميها البعض (أخلاقيات الزحام) ، والتي تكلمنا عنها والتي هي باختصار أنه عندما تكون الظروف سيئة جدا ، يكون الجميع سيء الأخلاق ، ليسوا لأنهم سيئون فعلا ، بل لأن كل شيء يدفع في اتجاه سوء الأخلاق . ولنضف إليه قاعدة أخرى ، قاعدة صراحة نحن المغاربة لم تستوعبها منا إلا قلة ذات عزة نفس أولا ، وذات بعد نظر ثانيا - ما هي هذه القاعدة ؟
تقول القاعدة ، إذا رأيت شيئا ثمينا مهملا ، منسيا ، ملطخا بالقاذورات ، برائحة نتنة .. إلى آخر الحقل اللغوي . اعلم أن هناك أحدا ، جهة ، منظومة لها كامل المصلحة في أن يكون كذلك .
كثيرة هي الأشياء الثمينة في وطننا المسكين ، الملطخة بالقاذورات . ابتداء بالشواطئ ، والغابات ، والمحميات الطبيعية ، والآثار التاريخية وانتهاء بالمفكرين والفلاسفة والباحثين ..
لماذا هو من مصلحة جهة ذات بعد نظر تغليف الأشياء الثمينة بطبقة من القاذورات ؟
ببساطة كي ينصرف عنها الناس ، وكي تصير منفرة ، ومثيرة للغثيان . لا بل ، ربما تصير مصدر خطر لأنها تصير مرتعا للمجرمين والمتربصين والمعتدين .
إذا انصرف الناس عن الشيء الثمين ، لأي سبب من الأسباب ، وجدت تحالف (خانقين عقاريين ) - لأنهم ليسوا منعشين عقاريين أبدا- استولى على المحمية وأقام عمارات . أو اسما تجاريا عالميا ، أقام فندقا من خمس نجوم . أو مستغلا انعدام الأمن الذي خَلَق ، يأتي من ينشأ شركة أمن خاص ، وكلهم يربحون الملايير على أظهرنا نحن الذين قررنا الموت الفكري .
هؤلاء تجاوزوا النظرة-الفكرة التقليدية القائلة بأنه عليك أن تجد الأسواق ، إلى فكرة أخطر هي أنه عليك أن تخلق السوق ، ثم تستفيد منه طبعا .
هؤلاء تجاوزوا النظرة-الفكرة التقليدية التي تقول أنه عليك أن تنتظر الأثمان حتى تنخفض لتشتري ما تريد بثمن رخيص ، إلى فكرة أخطر هي أنه عليك أن تخلق أشياء تجعل ثمن الشيء ينخفض عن قصد وبالضرورة وبحكم واقع جديد خلقته ، ثم بعد ذلك تشتريه .
هؤلاء تجاوزوا النظرة-الفكرة التقليدية القائلة أنه عليك أن تدفع الضريبة ليتم توفير الخدمة ، إلى نظرة أخطر هي أنه عليك أن تدفع الضريبة ، وبعد ذلك ستتلقى خدمة هي من السوء لدرجة تنسيك أنك دفعت ، وستهرب إلى خدمة في القطاع الخاص هو يوفرها لك . وليت الأمر يتوقف هناك ، بل حتى تلك الخدمة المسماة (خاصة) هي البؤس بعينه ، - رصدت مرة في مصحة خاصة في البيضاء عشرين تجاوزا ، وافقني عليها الطبيب الذي نصحني بالمصحة نفسه ، وأخبرني أن المصحات الأخرى أسوء- ، وما دمت قد دفعت مرتين ثمن شيء واحد ، فالغالب أنك ستستمر في الدفع .
التعليم العمومي غال ثمين ونفيس ، وأغلب المشتغلين فيه لا يدركون . لكن التجار الجشعون يدركون ويريدون الاستيلاء عليه تماما ، فالآن استولوا عليه جزئيا فقط . وما الأوساخ التي تراها عليه الآن إلا لتنفيرك منه نهائيا ، بينما التفكير الصافي يفترض أن يقع تكتل من الصادقين الذي فيه ، مع الصادقين في باقي المجتمع للدفاع عنه في حرب أشبه بحرب الخنادق.
ما هو قائم لا يزال قائما بقلة من المقاومين الأبطال الذين هم بنفس قيمة من قرر البقاء في المفاعلات اليابانية التي انفجرت . هم قلة أحبطت لحد الآن مخططات الاستيلاء على التعليم العمومي ، بمبادرات فردية متفرقة .
تخيل لو حدث تكتل منظم .
هذه القلة التي لا تزال في هذا القطاع ، - وفي قطاعات أخرى - ، ما الذي يميزها عن الآخرين الذين استسلموا للظروف والضغوط والمحيط ، وانساقوا مع الاستغلال ؟
تعالوا نحللها هي الأخرى فذلك سهل نسبيا مقارنة مع ما رأينا ولن تأخذ منا إلا بعض الجمل .
هذه القلة من المرابطين ، والذين بفضلهم المعبد لا يزال قائما ، فهم من يدعم الركائز والأساسات والأعمدة ، تجدهم متميزين في الغالب بشيء واحد . تجد لهم قيما أخلاقية ونظرة سياسية ورؤية مجتمعية . تجدهم مناضلين يساريين ، أو منتمون إلى جماعات أصولية معارضة ، أو منخرطين في المشروع الآمازيغي ، أو مواطنون مستقلون يؤمنون بأن مغربا آخر ، يحترم الإنسان ، منتج ، ممتع ، هو أمر ممكن جدا .
المتهاونون ، المتكاسلون ، المستسلمون ، البكّاؤون غالبا لا تجد لديهم هذا البعد . كأنما الذين يضعون لأنفسهم الكبير من الأهداف ، الأهداف الصغرى ، الأهداف المهنية ، الأهداف المرتبطة بالعمل تأتي من تلقاء نفسها .
شيء عادي جدا ، فمن يحلم بتغيير العالم .. تغيير مدرسة .. أو مصحة .. أو مركز بريد .. بالنسبة له لعب أطفال ليس إلا .
صديقي ، صديقتي ابتعادك عن السياسة هو سبب انهيارك الداخلي وتيهك حتى في البسيط من الأشياء ، كقسم مثلا .
وبسبب ابتعادك ونفورك وإحجامك عن السياسة ، صرت ترى نفسك ضعيفا ، صغيرا ، بئيسا لا تصلح إلا للتصفيق للآخرين سياسيين كانوا ، أو رياضيين ، أو حتى أبطال أفلام هندية ، متخيلا أنك خلقت لهذا فقط .
أختي ، أخي يا من أنتما أنا .. اليوم بدون تعليم نحن ، بسبب نجاحهم في جعلنا نعزف عن الشأن العام .. مرتعب أنا أن نصير في غد قريب بدون وطن إن لم نتوقف عن تقديس ونتكتل .