مع كل حلول لموعد اجراء متحانات الباكالوريا السنوي بالمغرب يطفو على سطح اهتمامات المغاربة نقاش حول ظاهرة الغش حتى يخيل للمرء أن غش التلاميذ هو المنبع الاساس لكل روافد هذا الداء الفتاك بالشعوب والامم وليس رافدا أو مظهرا ثانويا أو ثمرة لغش كبير متجذر في التربة المغربية ودول كثيرة . ومنهجيا حين تكون الاطروحة او المنطلقات في اي عملية تفكير مبنية على معلومات خاطئة فلايمكن للاستنتاج الا ان يكون مجانبا للصواب .
قطاع التعليم جزء من الكل الذي هو المجتمع بكل بنياته السياسية والاقتصادية والثقافية او بتعبير آخر هو عضو من جسد قد يؤثر قليلا كالاصبع او كثيرا كالمخ لكنه لايمكن ان يعطي لهذا الجسد شكله الكامل من دون تكامل سائر اعضائه.
في القمة يوجد ملك
لنبدأ بالمؤسسة الملكية باعتبارها تشكل قمة الهرم المجتمعي مؤسساتيا قبل أن ننزل حتى قاعدته العريضة في جولة سريعة ومختصرة ونناقش بهدوء ماذا فعلت فيه كارثة الغش من مصائب تقشعر لها العقول والالباب.
قبل اشهر قليلة كشفت تسريبات حول الشخصيات الدولية التي فتحت حسابات بنكية سرية باشهر ابناك سويسرا HSBC عن وجود اسم الملك محمد السادس وسكرتيره الخاص منير الماجدي ضمن اللائحة السوداء للبنك بمبلغ تجاوز 7 ملايين اورو خلال ستة اشهر فقط من فتحهما للحساب المشترك في غضون سنة 2007 .
ورغم البلاغ الغامض الذي اصدره القصر الملكي والذي قدم تبريرات سخيفة ردا على مانشر فقد كان واضحا أن ملك البلاد خالف قوانين المغرب بتهريبه المال وتهربه بالتالي من اداء الضرائب وهو فعل يتابع عنه جنائيا . لماذا ؟
أولا لأن الحساب البنكي فتح بشكل سري وهو سلوك مشبوه لايحتاج أن يقوم به رئيس دولة ورجل اعمال ملياردير مادام فعله تم تحت القانون والاموال التي وضعت فيه جمعت بشكل مشروع .
ثانيا لم تعمد ادارة مكتب الصرف الى نشر وثيقة رسمية تثبت ان فتح الحساب بالخارج ونقل الاموال اليه تمت بطريقة سليمة قانونيا ودعما لتوضيح القصر الملكي درءا لكل الاشاعات والقراءات لانها هي الجهة القانونية المؤهلة لتقديم الدلائل والحجج مادام امحمد السادس اقر بانه مواطن يؤدي ضرائبه .
ثالثا بلاغ القصر الملكي لم يعطي أية معلومات إضافية عن مصير الحساب البنكي السري بعد 2007 الى غاية اليوم . هل اقفل أم لازال مفتوحا ، وفي الحالة الثانية كم وصل حجم المبالغ المودعة فيه حتى اليوم . وان اقفل اين الدليل على الفعل .
رابعا وحتى إن تغابينا عن كل هذا وقبلنا أن الحساب السري احترم كل المساطر القانونية ستظل اسئلة ذات طبيعة اخلاقية وسياسية مطروحة من مثيل : كيف ستيقنع مسؤولي دولة كالمغرب المستثمرين الاجانب بالمجيئ للبلد للإستثمار فيه باموالهم ورئيس الدولة يخرج أمواله للاستثمار بها بالخارج أو لإيداعها هناك خوفا من تقلبات الاوضاع السياسية بالبلد ؟ المستثمرون ليسوا بلداء ليغامروا بفعل يتهرب منه رئيس الدولة .
بدون التلاعب بالكلمات والمفاهيم ماقام به المؤتمن على صيانة الدستور والحفاظ على سير المؤسسات غش كبير لايغتفر وفي رمزيته يشكل نوعا من التهديد لاستقرار البلاد وزعزعة لمصداقيتها اما العالم .
مثال اخير على غش اكثر خطورة من الاول والذي نفذه المحيطون بالملك ولايمكن ان يتم بدون موافقة منه لانه يتعلق بصلاحياته الدستورية في علاقته برئيس الحكومة.
يوم 30 يونيه 2011، أي عشية الاستفتاء على الدستور قام "مجهولون " داخل لجنة الملك الكلفة بصياغة الدستور بتغيير بعض فقرات مشروع الدستور الذي نشر اسبوعين قبل هذا التاريخ بالجريدة الرسمية وشنت حملة التصويت عليه بنعم او بلا . الشئ الذي جعل المغاربة يصوتون على دستور آخر غير الذي قدم لهم رسميا . مثال على هذا الغش المزلزل يوجد في الفصل 42 من الدستور حيث تقول الفقرة بعد ان طالها التزوير أن الملك له صلاحية تعيين رئيس المحكمة الدستورية لوحده بينما تقول الفقرة الاصلية التي كان سيصوت عليها المغاربة في الصباح الموالي "أن الملك يعين رئيس المحكمة الدستورية ولكن ظهير التعيين كان يستلزم التوقيع بالعطف من طرف رئيس الحكومة ". هذا خداع وغش وتزوير واستخفاف واحتقار لاوصف له لإرادة المغاربة واستبلاد لعقولهم .
الحكومة وجودها حالة غش بنفسها
اما غش الحكومة الكبير فهو قبولها عن طواعية ووعي أن تلعب دور أرنب لسباق يجريه الملك والمحيطون به والشركات العملاقة المحلية والعابرة للقارات والمؤسسات الدولية المالية . قبلت أن تكون كومبارس وواجهة في مسرحية تنسج خيوطها خلف الستائر ومع ذلك يحصل وزراءها ودواوينهم على أجور وتعويضات خيالية لايحصل عليها ممثلون لحكومات دول كثيرة تحكم نظريا وممارسة .
الحكومة مارست التدليس والغش في حق المغاربة يوم وعدتهم بتحقيق نمو اقتصادي في البلد يصل الى 7 في المائة في ظرف خمس سنوات مع ان الاحزاب المشكلة لها تعرف ان الوضع العالمي المتأزم لايسمح بتحقيق هذا الرقم . واليوم مرت اربع سنوات من ولايتها ولم تستطع تحقيق نصف ماوعدت اي 3.5 في المائة رغم الظروف المناخية الجيدة الا بشق الانفس .
البرلمان سرك للغشاشين
أما سرك البرلمان فغش اعضاءه يشاهده المغاربة كل اربعاء مباشرة على قنواته المخزنية حيث ينفق الشعب الملايير كل شهر على جيش عرمرم من البرلمانيين ولايستطيع ربعهم كأضعف الايمان حضور جلسة واحدة خلال سنة كاملة .اما سن قوانين تزيد من سمنة رواتبهم في فترة تتقشف فيه كل حكومات العالمية فتلك حكاية نصب من نوع آخر .
الاحزاب والتربية على الغش
غالبية الاحزاب تغش المواطنين وقياداتها تغش المواطنين وتغش اعضاءها في نفس الوقت لذلك لاتقدم لهم مثلا عددا حقيقيا لمنخرطيها ولاتقدم للسلطات المختصة كشوفات حقيقية عن مآل الملايين التي تحصل عليها من الدولة وقد تبين أن الحزب الحاكم الاسلامي مؤخرا كان كذلك يتلاعب كذلك بالمال العام قبل أن يجبر على إعادته لخزينة الدولة .
نزول انتحاري لباقي الغشاشين
أما الادارات العامة والشبه العمومية فقراءة تقارير المجلس الاعلى للحسابات السنوي على علاته منذ 2005 تكفي فضائحها ليفقد المواطن عقله بشكل كامل . ورغم المجلدات التي وثقها مفتشوه عن عشرات المؤسسات والاف المسؤولين طيلة عقد من الزمن فلايتجاوز المتابعون قضائيا لحد الساعة على خلفية تقاريره عدد اصابع اليدين .
الشركات الخاصة تغش زبناءها باشكال لاتخطر على بال وفضائح عملاقي البناء بالمغرب مجموعة الشعبي للأسكان ومجموعة الضحى مثال على ذلك حيث تنصبان على المشترين تارة في جودة البناء وتارة في عقود البيع وتارة بهما معا بل وقد تتبخر ملايين الفقراء دون أن يحصلوا على قبر الحياة الدنيا في الابد القريب والمتوسط .
الاطباء يغشون حين يتركون اماكنهم بالمستشفيات العمومية مع الحفاظ على رواتبهم بها ويلتحقون بالمصحات الخاصة لينفخوا في ارصدتهم البنكية على حساب حياة المواطنين .
القوات المسلحة والشرطة والدرك والمخابرات يغشون في اماكن التعيينات وفي بيع المتاصب والحصول على ماذونيات ورخص الصيد والبناء وفي بيع البنزين والمواد الغذائية .
الاساتذة يغشون حين يتسلحون بشواهد طبية مزورة ليأخذوا إجازات مدفوعة الثمن من اجل قضاء مصالحهم الخاصة ويتركوا التلاميذ تتلاعب بهم آفات الشوارع والوديان.
المحامون والقضاة يغشون في المحاكم حين يتلاعبون بمصائر المتقاضين ويزورون العقود والاحكام .
الفقهاء يغشون حين يطوعون النصوص الدينية من اجل تبرئة لصوص أورفع مفسدين درجات في سلم الصدق والايمان .
التجار يغشون في الميزان وفي الاثمنة وجودة المنتوج وتواريخ الصلاحية وغيرها .
كل هذا الخمج الاداري في الحكامة لاتظهر روائح الا حين يتوجه التلاميذ لاجتياز إمتحانات الباكالوريا حيث تتعالى صرخات الاستنكار وترتفع اسهم المزايدات السياسيوية الحقيرة المطالبة بنصب المشانق لتلاميذ هم من صنع ايدينا .

في الختم عودة للقمة
الغش أخطبوط عملاق غرس كل أذرعه في كل مؤسسات المجتمع الرسمية والاسرية والمدنية ، يمتص حاجيات وأسباب حياته وتأبيده منها وفي نفس الوقت يحكم سيطرته على كل تحركاتها . بتر ذراع منه او ذراعين ستضعفه حتما لكن لن تقتله وقد ينبت اذرعا بديلة أقوى وأمتن لو منح وقتا كافيا. وحده قطع رأس الاخطبوط من سينهي قبضة الاذرع ويخلص كل مؤسسات المجتمع من سيطرته المتوحشة . غير هذا مجرد دوران في الفراغ وهدر مجاني لأغلى شئ في الكون الذي هو الوقت .