هشام دراز
كلنا تابعنا كيف أن فأرا تقيّا متدينا وورعا ، اندس بين أرجل نساء كن يؤدين صلاة في واحد من أكبر مساجد العالم ، وكيف أن ذلك سبب تدافعا صغيرا أدى إلى سقوط مكبر صوت . صوت المكبر وهو يقع تخيله كثيرون هجوما داعشيا من نوع ما ، ودون وعي منهن ومنهم تدافع الجمع ليسبب التدافع الكبير -وليس الفأر- عشرات المجروحين .
الحظ الحسن ، أو ربما أدعية المصلين هو فقط ما جنبنا كارثة أخرى من طينة ، طنطان أو الواد الشهير أو الفيضانات .
نعم نعم ، لقد كنا قاب قوسين من فجيعة أخرى ، لكن هذه المرة الجرة بقيت سالمة .
متابعة هذا الحادث الذي لا يمكن وصفه إلا بالغريب ، جعلنا نستنبط الأفكار التالية :
- المكان ليس نظيفا ، وإذا كان نظيفا فإن الأماكن المحيطة ليست كذلك ، فالجرذان والنظافة ضدان .
- المواطنون مشحونون شحنا نفسيا زائدا عن اللزوم ، وإذا كانت هناك جهة ترى أنه لا بد من هذا التخويف الممنهج فإننا نظن أنه حان الوقت لبعض الرحمة بالناس .
- اجراءات السلامة ليست اجراءات محترفين ، إذ أن سقوط مكبر الصوت يدل على أنه لم يكن مثبتا بالطريقة التي يجب أن يكون مثبتا بها في مكان زحام . وعادة هذه التفاصيل الصغيرة هي ما يسبب الكوارث .
- المغاربة ليسوا مدربين على التصرف في حالات الطوارئ ، وهذا عادي جدا إذ أنه لا تكوين في هذا المجال ، ولا انخراط من وسائل الإعلام أو المساجد أو المدارس ، ولا تدريبات على المستوى الوطني كما نرى في بلدان أخرى .
- كثير من المصلين لا يذهبون للصلاة حقا . فالأكل المنتشر ، وأوراق اللعب ، وردة فعل الجموع في عمومها تدل على أن البعض يذهب لاتمام مراسيم الأكل التي يبدأ في المنزل ، والبعض الآخر ليراه الآخرون يصلي ، أما نسبة أخرى في تقديرنا فهي ذاهبة جرا جرا ، وكرها لذلك فلا نستغرب أنها تأخذ أوراق اللعب ، أو الألعاب الإلكترونية ، وربما في القادم من الأيام سيحاول أحدهم إدخال طاولة بيلياردو بأكملها .
لنترك النقاط الأخرى والتي كلها مهمة ، ولنركز فى مسألة التخويف الممنهج .
عندما تكون سياستك التحكمية مبنية أساسا على التخويف من غول ما ، فإن فأرا يكون كافيا لأحداث أبشع الخسائر .
من ناحية هذا يبين كم مهمة هي الحرب النفسية ، لدرجة أنه يمكن المجازفة والقول أنها هي الحرب ، سواها ليس حربا أبدا .
ومن ناحية أخرى نتساءل لم هؤلاء الناس المتقنون لفن تخويف الشعب المغربي لا يستعملون هذه المهارات الاحترافية العالية من أجل ايجاد حلول حقيقية لما يعانيه الشباب من بطالة وتهميش وتفقير ...
لأنه مؤكد لو تم استعمال ربع المجهود الذي يتم استعماله لجعل الناس مرعوبة بهذا الشكل ، في تحفيزهم ، وبث روح الثقة في أنفسهم وفي المستقبل ، وفي حثهم على المبادرة . مضافا لذلك تكوينات حقيقية ، ودعما في هذا الجانب و ذاك ، لرأيت في هذا البلد عجبا من نوع آخر ...
ماذا كنت لترى عوض الهرب الهيستيري من مكبر لم يكلف المسؤول عنه عناء تثبيته بأمانة وإخلاص وصدق ؟
كنت لترى تدافعا من أجل خلق واصطياد واستثمار الفرص . كنت لترى هربا هستيريا من التواكل ، والانتظارية ، والسخافة . كنت لترى ترقبا لظهور فرص الشغل ، والإبداع ، وتطوير الذات واستعدادا تاما لاستغلال أقل فرصة متاحة .
كنت لترى المغربي يتوقع - و يرى نفسه أهلا - لأن يأتي أفضل المستثمرين العالميين ليضع أمواله أمانة عنده ، لأنه معجب بكفاءاته المهنية ، استغلاله للوقت ، أمانته ، وتكوينه لذاته ، وأخلاقه العالية .
كنت لترى الكثير لو كانت هذه الحرب النفسية معكوسة ، وملحمة دعم نفسية مبنية على أسس علمية .
كرأي شخصي متواضع ، أقترح أن ارحموا الناس وأن يكفي ترعيبا ممنهجا .
إذا كان الدواعش سيأتون فليأتوا بسرعة . فوقوع البلاء أرحم من انتظاره . وإذا كان أحد ما سيفرض على هذا الشعب تنكيلا أكثر مما هو فيه ، فليفرضه بسرعة ، وسيتعلم الشعب بىسرعة أهمية قيمة الحرية ، وأهمية الدفاع عنها كل يوم ، وأهمية أن يجعلها على رأس الأولويات .
يكفي تجملا ، ويكفي مَنّا ، ويكفي جعل الشعب يحس أنه غير قادر على اختيار الأنسب من الحكام ، وغير قادر على تسيير نفسه ، وغير قادر على حماية نفسه .
طبعا إذا أخذت هذه الأفكار ، وبجميع الطرق المباشر منها وغير المباشر ، جعلت هدفك كدولة أن يترسخ في ذهن كل مواطن هذه الدونية العميقة . فإن ما ستحصل عليه لا يعدو أن يكون أشباح مواطنين . أشباح بأرواح باهتة تخاف الفأر والشرطي والآخر والقائد وتخاف ظلها أيضا .
وهو الحاصل وهو ما نراه حقا .
مواطنون كهؤلاء أطياف بلا تأثير كيف تتوقع منها أي شيء ؟
كل عقلهم يبدع ، ويخترع ، ويبادر إلى طرق ، ووسائل تفادي قمع رئيس العمل ، الزوج أو الزوجة ، الصهر أو الكنة ، الفاتورة أو الضريبة ، الكارثة أو المصيبة .
صار الناس يتوقعون الأسوء . ومن يتوقع الأسوء يمشي بأقل سرعة متاحة . فالناس تعرف بلا وعيها أن وقوع الأسوء ، والسرعة قليلة يقلل الأضرار ، بينما وقوع ذات السوء والسرعة عالية يكبد المتحمس خسائر كبيرة .
الذكي مغربيا ، صار من يعيش بين الحفر . من يحقق التعادل أو خسارة بهدف واحد لصفر ، أو من لا يتيح الفرصة لأعداء - وهميين موجودين فقط في الخيال - كي يستهزؤوا منه .
ولكي ينجح في ابداعاته الانكفائية هاته ، كل الطرق ممكنة . الغش ، والذل ، والاحتيال ، واستصغار الذات ، واحتقار النفس ، والنفاق ، والخبث ، والرشوة ، والأنانية . كلها طرق تؤدي إلى "روما" الانكفاء ، والاختباء ، وذل البقاء .
رغم ذلك كلنا أمل أن من ناحية تقف هذه الحرب النفسية الممنجة ، التي لن تؤدي بنا إلى أي منفذ مشرف .
ومن ناحية أخرى كلنا أمل أن يفهم المغاربة ما يتعرضون له من تخويف ، وترعيب ، وإرباك وأن يبحثوا هنا وهناك عن أساليب تجاوز ذلك . فذلك ممكن جدا بما هو متاح من وسائل العصر ، يكفي البحث .
.. ويكفي التوقف عن تصديق كل ما تأتي به الأخبار ، والمسلسلات ، والصحف ، والإعلانات ، والبراحون السياسيون التافهون .
ويكفي أن يعترف المغربي أن أثمن كنز إنما هو العقل النقدي ، وليس هو تلك الأوقات التي يقضي مسلوب الإرادة ، والهوية ، والروح ، قبالة تلفاز غبي يبث مقابلة كرة أغبى ، أو مسابقة غناء أدهى ، أو برامج شيوخ وهابيين متخلفين تجاوزا الحد وانخرطوا انخراطا تاما في ملحمة االكذب ، والتخويف ، والتخريف .
العقل النقدي هو ما أنقذ آخرين ، وهو ما سينقذك ، ولن تجد أي منقذ سواه .
التحليل ، والتساؤل ، والمقارنة ، والبحث عن الدوافع ، والبحث عن الأسباب ، والموضوعية ، والأعصاب الباردة ، والاستنباط ، والبحث ، والدراسة ، وتطوير الذات باستمرار ، والتأقلم ، والتفريق بين الشيء وقاعدة الشيء ، وبين الجوهر والقشرة ، وبين الرئيسي والثانوي .
منقذ نفسك نفسك ، وما ينتظرك ليس يسيرا ، لكن يتحقق خطوة خطوة .