بقلم المعتقل السابق حافظ الحفيضي
القاضي الذي كان مكلفا بملفنا نحن السبعة؛ كان يشبه في شكله قربة الماء؛ و لا يصلح إلا لإفراغه من الوسط وحشوه بالبيض ليقدم كوليمة تعقد للصلح بين قبيلتين اختصمتا؛ فكأن الأمر لا يعنيه؛ ينتقل للسؤال الموالي قبل أن تجيبه على الأول؛ حركاته وابتسامته تدل على أنه فقط يؤدي دورا في مسرحية؛ كان يتوسط مستشاريه ووكيل الملك الذي أصر أن ينعتنا بالمخربين والمجرمين؛ ويصف قوات القمع بالقوات التي جاءت لتؤمن الحي الجامعي وأطرافه؛ حيث تعرضوا للرشق بالحجارة من طرف الطلبة؛ وكانوا بذلك؛ من وجهة نظره؛ ضحية تدخلنا المفرط في العنف؛ فأصيب منهم من أصيب وفر منهم من فر؛ أما نحن كما يرى غلام الملك هذا؛ فيجب على المحكمة أن تنزل في حقنا أشد العقوبات.
القاضي كان يحتج أحيانا ويطلب منا سحب عبارة _النظام القائم_ ويسأل: هل كنت في التظاهرة؟ من أضرم النار في أفرشة الحي الجامعي؟ يا لغباء هؤلاء المتكرشين؛ يعرفون جيدا كل الحيثيات؛ ويسألون بوقاحة.
بعد أربع جلسات متتالية؛ وبعد أن أبلى الدفاع بلاء حسنا في تبيان حقيقتنا كمناضلين في صفوف الإتحاد الوطني لطلبة المغرب؛ وكمناهضين لسياسات النظام اللا وطنية في التعليم؛ تم الحكم علينا~نحن السبعة~ بسنة سجنا نافذا؛ بصدق؛ لم يزحزح هذا الحكم من قناعتنا شيئا؛ كنا نتوقع أكثر من ذلك؛ لأننا نعرف جيدا مدى لقاطة هذه الدولة؛ والتي تسجن خيرة أبناء هذا الشعب؛ فيما تفسح المجال لفاسديه وحثالته حتى يعيثوا في هذا الوطن نهبا وخرابا؛ وكنا متيقنين من أن مقصلة الشعب ستنصب لا محالة؛ إن آجلا أم عاجلا؛ لتقتص من هؤلاء؛ وتكون بذلك حدا فاصلا بين مجتمع الاستغلال ومجتمع الحرية الذي ستنتفي فيه كل أشكال الاعتقال؛ إذ ستتلاشى نظم الدولة باعتبارها أداة توظفها طبقة لقمع أخرى.
...بعد مرور شهر تقريبا على إدانتنا بسنة سجنا نافذا؛ بدأت فصول المحاكمة الصورية من جديد؛ ولكن في محكمة الاستئناف هذه المرة؛ كنا وقتها قد شرعنا في الإضراب المفتوح عن الطعام؛ فقررنا مقاطعة المحاكمة ورفض الذهاب إلى المحكمة؛ لكن تراجعنا فيما بعد وعدلنا عن الفكرة؛ ولجنا القاعة؛ الدفاع يطلب السراح المؤقت والمحكمة ترفض؛ أما نحن فكنا نجلس بصمت؛لا قدرة لدينا على الحديث؛ فقد مر على الإضراب أسبوعين؛ وبدأ الهزال يأخذ منا نصيبه؛ فما كان منا إلا رفض المجيء إلى قفص الاتهام بدعوى الإنهاك والبقاء في أماكننا إلى أن تم تأجيل الجلسة؛ وتزامنا مع هذا؛ بدأ قاضي التحقيق يجري تحقيقاته مع المجموعة الأخرى من الرفاق؛ والذين تمت إحالتهم منذ البداية على غرفة الجنايات؛ وقد هيأوا لهم ملفا ضخما مليئا بالتهم؛ فبالإضافة إلى التظاهر المسلح وغير المرخص به وإضرام النار في إدارة الحي الجامعي ومقهى تالوجت المجاورة؛ ألصقوا لهم تهمة محاولة القتل؛ فغذا الملف شائكا ومعه أصبح النظام حائرا؛ إذ بدا وكأنه تورط في هذه المسألة؛ ثمانية عشر معتقلا داخل السجن؛ وآلاف المتظاهرين المطالبين بالإفراج الفوري بالخارج؛ بل وصل الأمر إلى أن تظاهرت هيئات حقوقية وديمقراطية خارج الوطن تندد بقمع النظام واعتقاله للطلبة المناضلين
....الأسبوع الثاني من شهر غشت سنة 2008؛ حمل معه ما لم يكن في الحسبان؛ رحل المتيم والميتم والمتمم ما مضى؛ فذرفت لأجله دموعا كثيرة؛ وأدركت حينها أنه كان لي؛ ولآخرين من بعدي؛ عندما لم يكن لنفسه في آخر سطر من جداريته؛ سافر درويش إلى الخلود؛ مودعا حقائبه عند محبيه و أوفيائه؛ وكنت و الدحاني منهم؛ ولكم تمنيت أن أراه قبل وفاته وهو يعزف أوتار شعره.
الدحاني الذي منحته اسمي مدة شهرين تقريبا؛ فأصبح يناديني عزيز وأناديه حافظ؛ كان حبيبي ورفيقي؛ وكنت أقول له من حين لآخر لو أنه كان فتاة لصار ضرة لسبيريت الذي كنت سأعقد عليه هو الآخر لو لم يكن ذكرا؛ الدحاني الذي أوقفوه شهرا عن الدراسة بثانوية سيدي أحمد بناصر بزاكورة بعد الإضرابات الساخنة؛ صار صديقا؛ بعدها قررنا أن نسكن سوية في أكادير؛ انخرط في شعبة الدراسات الإنكليزية؛ وتوجهت صوب الأدب الفرنسي؛ لكن نقاشاتنا إلى جانب _بيتر_ في غرفة بحي القدس؛ لم تسمح لا للإنكليز ولا للفرنسيين بالاستفادة من معارفنا؛ نظل نتسامر حتى الصباح لننام بعدها إلى المساء؛ كنا نشوش على عسو ورفاقه بالغرفة المجاورة؛ نجعل من بيتر قضية ونحن الاثنان طرفا نقاشها؛ عندما نقصد كلية الآداب ابن زهر؛ نلبث بجانب حلقية _النقاش_ ولما نعود إلى البيت نستحضر كل التفاصيل؛ نقلد هذا ونسخر من ذاك؛ نعيد كل صغيرة وكبيرة؛ إلى أن طردتنا أمينة _صاحبة البيت_ بعدما لم تعد تحتمل ضجيجنا وكثرة ضيوفنا؛ فقصدنا حي السلام واستمررنا في لامبالاتنا إلى أن جاء موعد الامتحانات.
في السنة الموالية؛ قررت الانتقال إلى مدينة مراكش؛ فتركت الدحاني وحيدا؛ لكنه أصبح جديا؛ فبرز في صفوف الطلبة القاعديين؛ وظل كذلك إلى أن أرهقه المرض فالتحق بمراكش هو الآخر؛ لم نعد نلتقي إلا لماما رغم أن حبنا وانسجامنا لم يتراجع؛ فقط انشغل بالمهام؛ وانشغلت بمهامي التي يعرفها جيدا إلى جانب غزلان.
الدحاني الذي كانت لديه قدرة كبيرة على فهم واستيعاب الأمور؛ كان يفهم لغتي جيدا؛ فإما أن نناقش الأدب والسياسة؛ وإما نبدع في الهزل؛ ولكم كان (فِهّيما) إلى درجة أنه كان بمقدرونا اختراع لغة خاصة لا يفهمها سوانا؛ كان يتقن المزاح بشكل كبير؛ كما كان على علم بمعظم شفراتي؛ فهو يفهم ألغازي جيدا؛ أما عندما ندخل بحر الأدب فنتيه في شعر درويش وروايات منيف وحنا مينا.