بقلم الاستاذ الجامعي في السوسيولوجيا جمال فزة
1- وقائع
بعد مشاهدة مقابلة في كرة القدم جمعت بين فريقي بارشلونة وأتليتيكو مدريد، التحقت بصديق لي كان رفقة صديق له يستعلم عن لقاء بوزنيقة الذي احتضن مبادرة يسارية من أجل الإسهام في خلق قطب ديمقراطي حداثي. كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشر تقريبا لما وصلت إلى مرأب سيارات يطل على البحر، يبعد ببضعة أمتار عن مقبرة الشهداء، هناك حيث التقيت بالشخصين المذكورين. كان معهما قنينة جاك دانييل تشرف على نهايتها. بالطبع، لم أفوت الفرصة- وأنا الذي أحب هذا النوع من الشراب تحديدا- فطلبت منهما أن يمداني بكأس أتذوقه، فلم يكد الشراب يلمس حنجرتي حتى أحاط بالسيارة رجال بزي مدني، مرتجلون، يخاطبنا أحدهم بنبرة حادة: "أوراق السيارة، أنتم في حضرة البوليس!". رفض صديقي تسليمهم أوراق السيارة وطلب منهم الإدلاء بما يثبت هويتهم؛ خصوصا وأنه لا يبدو عليهم أي علامة على أنهم ينتمون إلى الشرطة. وحينها- ودعوني هنا ألتمس اللغة العامية لأشقائنا المصريين، فأنا أجدها في هذه الحالة الأبلغ تعبيرا- "عينك ما تشوف إلا النور" : اقتحموا علينا السيارة بعنف وسحبوا صديقي إلى خارج السيارة بوحشية وكأنهم يسحبون كلبا، وعلى أطراف ألسنتهم كلمات نابية نستحيي أن نقدمها هنا للقراء. خرجت من السيارة مهرولا باتجاههم فانتبهت إلى أنهم يحملون الأصفاد، حينها جلست إلى الأرض ومددت يدي للأصفاد قائلا : "لستم في حاجة لاستعمال العنف، انتبهوا إلى أنكم لا تحتاجون إلى ممارسة بطولاتكم على مواطنين يقدمون أياديهم للأصفاد" قلت هذا الكلام طبعا وأنا أصرخ وأحتج على طريقة معاملتهم لنا. لكن يبدو أن صراخي كان يعني لهم أنني أتحداهم وأبخس سلطتهم، فكان نصيبي من حقدهم أن شتموني بكل الكلمات الماسة بالكرامة الإنسانية وصفدوا يدي بطريقة معكوسة خلقت لدي ألما على مستوى الكوعين. هذا وقد استفاق ألم قديم على مستوى كتفي من وقع جري من مرفقي واقتيادي إلى سيارة الشرطة التي كانت تبعد عن مسرح الحدث بما يربو على المائتي متر. بعد تصاعد الوحشية والبطولة تقلص ملفي المطلبي إلى أقصى الحدود؛ فقد أضحى يشتمل على نقطة واحدة: "عدلوا أصفادي إنها معكوسة، وهي تؤلمني" ظللت أردد هذا المطلب الوحيد وبأعلى صوتي حتى بلغنا مخفر الشرطة. يسألونني "ما اسمك؟" وأجيبهم بصوت عال "عدلوا أصفادي، إنها معكوسة وتؤلمني" ولكن "على من تتلو زابورك يا داوود" فالصراخ في وجه هذا النوع من الأبطال يعتبر مذلة لهم. بالطبع لم يستجيبوا لمطلبي الوحيد وتم اقتيادنا مكبلي الأيدي إلى المستوى تحت- الأرضي حيث سنقضي ثمانية وأربعين ساعة مع أناس لطفاء تهمتهم الوحيدة أنهم يحتسون كؤوس الطلا مستمتعين بغروب الشمس وتحليق النوارس وبصوت الموج حينما يجن الليل. لكن قبل الوصول إلى الغرفة كان لزاما علينا أن نمر بدرج ضيق لم يسع صديقي اللذين كانا مكبلين معا من يديهما اليمنيتين، ويطالبان معا بتعديل الوضعية؛ بحيث يتم تصفيد أحدهما من يده اليمنى والآخر من اليد اليسرى حتى يتيسر السير. لكن يبدو أن مطلبهما كان بدوره مستفزا "لرجولتهم" وما نالوه منهم من سب وشتم لم يكن أقل مما نلته أنا، غير أن وضعيتهما مكبلين بتلك الطريقة والدفع الذي كانا يتعرضان له من طرف أكثر من رجل شرطة واحد انتهى بهما إلى السقوط أرضا حيث كان يقف شرطي-حارس ببذلته الرسمية فكانت النتيجة أن تعرض الشرطي لجرح على مستوى جبهته. ومرة أخرى "عينك ما تشوف إلا النور" : بدأ الشرطي يعفس على الجانب الأيمن من وجه صديقي وهو ملقى على الأرض وقد أغمي عليه. بدأت أصرخ: "سوف تقتله! ومرة أخرى "على من تتلو زابورك يا داوود!"

دلالات
من الصعب أن نرفع دعوى مطابقة المعاني للوقائع، لكن تبقى الوقائع دوما مؤشرات على تحول في المعاني والدلالات. فما هي المعاني التي تنطوي عليها الوقائع والأحداث التي سقناها في الحلقة الأولى؟
1- طريقة اقتحام رجال الشرطة للسيارة والعنف والترهيب اللذين مورسا علينا، لاسيما وقد تبين لرجال الشرطة أننا من طينة المواطنين الواعين بحقوق المواطنة والمتحدثين بقيمها، مؤشر خطير على أن الرسالة التي التقطها رجال الشرطة من المآل الذي انتهى إليه الربيع العربي وحركة 20 فبراير، تتمثل في اندحار القوى التي تدافع عن حقوق الإنسان وتوسيع نطاق الحريات الفردية. فالثقة الكبيرة التي كانت تحدوهم، وهم ينكلون بنا ويسحبوننا من السيارة كالكلاب، تعكس وعيا أصبح يترسخ لديهم بأن روح 20 فبراير قد أصابها الوهن، وأن التأويل الذي انتصر لدستور 2011 هو التأويل المحافظ والأصولي.
2- الطريقة التي رأيت بها صديقي يسحب من السيارة ذكرتني بمشاهد إلقاء القبض على الإرهابيين؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التعليمات والتدريبات التي أصبح يحظى بها رجال الشرطة فيما يخص محاربة الإرهاب، أضحت قاعدة عامة على أساسها يتعامل رجال الشرطة مع كافة المواطنين. وهذا يعني أن قانون الإرهاب قد أعاد إلى الواجهة صورة الدولة القوية والحاجة إلى تعزيز الأمن في مقابل توسيع الحريات.
3- فيما يخص احتساءنا لمياه الحياة، التي عادة ما تزين موائد نخب القوم وذوي الحس الرفيع منهم، تم نعتنا في مخفر الشرطة بالكفرة والملحدين واليهود؛ وهذا أخطر ما في الأمر على الإطلاق؛ حيث تتزين هنا تقاليد المخزن العتيقة بهندام حكومة إسلامية تكفيرية تفتقر لقيم الجمال والإبداع والفن و"تحد من طعام المسكين"!!! لا لوم علي رفاقي إن قلت لكم أنه تسلل إلي خلسة، وأنا الذي أتبجح بالشجاعة ورباطة الجأش في كثير من الأحيان، قدر من الخوف عندما شاهدت رجل شرطة يعفس بقدمه على وجه صديقي الذي كان مغمى عليه وملقى به على الأرض. سوف لن أستميح لكم عذرا إن طالني منكم عتاب على خوفي أمام شرطي مسلم يعذب كافرا ملحدا يهوديا لينال جزاء ذلك ثوابا غذا يوم القيامة إن شاء الله!! فالجزاء يزيد ويزيد بقدر ما تزيد القسوة وتزيد.
4- عندما ولجنا "الجيور" (geôle) وهو الإسم الذي يطلقه المعتقلون على مكان الاعتقال الاحتياطي قبل التقديم أمام أنظار وكيل الملك، كنت خائفا متوجسا من طبيعة الأشخاص الذين سوف ألتقي بهم في هذا المكان البئيس، الذي يفتقر لأدنى شروط الكرامة الإنسانية، فإذا بي أفاجأ بأشخاص كلهم أمل في أن يعيشوا، في أجمل بلد في العالم، بسعادة وأمان. فوجئت باحترامهم للأستاذ وإعطائه الأولوية في اختيار الغطاء والمكان الملائمين، فوجئت بأشرف وهو يطلب من الآخرين التزام الصمت ليستفيد من كلام الأستاذ؛ حيث اغتنمت الفرصة لمناقشة بعض القضايا التي تهم الرأي العام المغربي. حينها تولدت وتناسلت الأسئلة تلقائيا في ذهني: أين يقضي الإرهابيون لياليهم!! وأين هم المجرمون؟!!! أنتم تعرفون رفاقي أن الحس السوسيولوجي لا يفارقني حتى وأنا في وضعيات اعتيادية فكيف يفارقني في وضعية كهذه؟ هل يمارس رجال الشرطة بطولاتهم على هذا النوع من الأشخاص؟!!! وهل فعلا يعيش المغرب خطر الإرهاب؟
على ما يبدو لي إن المغاربة يعيشون فعلا خطر الإرهاب الذي يمارسه رجال الشرطة على المواطنين الأحرار. أما مكافحة الإرهاب فلا يعدو أن يكون مجرد غطاء لاستقواء السلطة وتخويف المواطنين وإعادة تعريف التعاقد الاجتماعي على قاعدة الخوف. وتعتبر مخافر الشرطة معامل لإنتاج الإرهابيين والمهاجرين السريين ليس لأن الدولة تمارس أخطاء وإنما لأنها، في بنية ممارستها، تحتاج إلى الإرهاب والهجرة السرية؛ فبفضلهما تضفي مشروعية على خطابها وطبيعتها في الجوار. أقول كلامي هذا وكلمات أحمد بائع الحوت الذي تم اقتياده بتهمة السكر البين تتردد في ذهني: " مائة ألف بحر ولا وجه المخزن"
تابعوا الحلقة القادمة فقد تطول الحلقات...