إنها هدية من السماء للسيد رجب طيب أردوغان. هذا هو أدق وصف يمكننا أن نصف به المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا مساء أمس. لا نعرف عن الذين يقفون وراءها سوى أنهم ضباط معدودون في الجيش التركي. قيل عنهم إنهم من أتباع رجل الدين المشهور فتح الله غولن، أو هكذا قال أردوغان وأنصاره منذ الوهلة الأولى. صحيح أن الاتهام هنا موجه إلى العدو اللدود للسيد أردوغان، والذي هو على منوال معظم أعدائه الكبار كان صديقه الأكبر في يوم من الأيام. وهنا يكمن المعنى البرغماتي الأكثر ابتذالا للسياسة. غير أن ذلك الاتهام السهل يصعب التأكد منه، لا سيما وأن فتح الله غولن لم يتردد منذ الساعات الأولى في التنديد بشدة بالمحاولة الإنقلابية.

لكن، مرة أخرى قد تضيع الحقيقة في غمرة الاستثمار السياسي للعملية. غير أن الذي يلقي على المحاولة الانقلابية مزيداً من الغموض هو توقيتها الذي لا يناسب أي أحد في الواقع. بل لعله توقيت خاطئ من وجهة نظر الجميع على وجه التقريب. فلقد استعاد السيد أردوغان للتو علاقته مع إسرائيل، ومع روسيا، وبدأ يمهد الطريق لتطبيع العلاقة مع سورية الأسد، ومصر في الطريق. ما يعني أن السيد أردوغان بدأ بنفسه يقود انقلابا أبيض على السياسة التي اجترحها منذ بدء ما كان يسمى بالربيع العربي، وذلك لأجل العودة إلى سياسة صفر مشاكل. وهذا ما يرضاه الجميع، شرقا وغربا، داخلا وخارجا. ما يعني أن السؤال السياسي الكبير : على ماذا حاول الانقلابيون الإنقلاب؟

في كل الأحوال ليس ثمة من شك في أن السيد أردوغان يبقى هو الرابح الأكبر من هذا الانقلاب الفاشل، لا سيما بعد أن استسلم الإنقلابيون المدججون بالدبابات والطائرات بنوع من السلاسة، ما جعل الامور تتجه بيُسر نحو الفشل السريع والذريع. فعلا، الأقدار غالبة كما كانت تقول العرب قديما، لكن بعض الأقدار وبعض المصادفات تشبه هدية السماء السابعة.. الآن، في كل الأحوال، فقد فشل الإنقلاب الفاشل، وهذا خبر جيد بالنسبة لأنصار الديمقراطية والحريات الفردية في العالم أجمع، وهو أيضا خبر جيد بالنسبة لأنصار أردوغان في العالم الإسلامي. لكن الخبر غير الجيد أن السيد أردوغان سيتجه بقوة أكبر نحو مزيد من التحكم في المؤسسة العسكرية "العثمانية"، ونحو التخلص من خصومه داخل مؤسسات الدولة، أكانوا من أتباع رجل الدين فتح الله غولن أو لم يكونوا كذلك. وعلى الأرجح سينجح "الإمام المغدور" في استثمار التعاطف الشعبي معه للتغاضي عن عودة العلاقة مع إسرائيل دون رفع الحصار عن غزة، والتغاضي عن الإعتذار "غير المتوقع" للسلطان العثماني أمام القيصر الروسي، والتغاضي عن أشياء أخرى في الداخل والخارج. بل سيغفر له الناس كل خطاياه طالما "نواياه طيبة"، وسيرتفع رصيده في صناديق الاقتراع، وسيضعف معارضوه أكثر من أي وقت مضى، وسينجح في تغيير الدستور واحتكار المزيد من الصلاحيات تحت مسمى النظام الرئاسي بصلاحيات واسعة، وستشهد التعددية في تركيا أوقاتا عصيبة بكل تأكيد.

فعلا، لقد خرج الشعب التركي لنصرة السيد أردوغان، في مشهد معبر بكل المقاييس، دون أن ننسى بأن المؤسسة العسكرية نفسها قد لعبت الدور الأكبر في إحباط المخطط الإنقلابي بسرعة وسلاسة، لكن، تأملا بسيطا في وجوه العديد من الخارجين، وسحناتهم، وشعاراتهم، يثير القلق حول ما يسمى بـ"شعوب أردوغان"، حول أمزجتها، حساباتها، أحلامها، وأوهامها أيضا.. إن الوقوف ضد الانقلاب العسكري لا يعني أن النقاش يجب أن يتوقف. إن توقف النقاش يعني شيئا واحداً : الموت السريري للديمقراطية.